يبدو أن معظم الفرقاء اللبنانيين وربما الدول المعنية بلبنان فقدت الأمل من إمكان تشكيل حكومة خلال الشهر والأيام الـ25 المتبقية من عمر ولاية الرئيس ميشال عون، وباتت تركز على انتخاب رئيس الجمهورية والحيلولة دون الفراغ الرئاسي، بعد انقضاء ستة أيام من المهلة الدستورية لانعقاد البرلمان من أجل اختياره، ولم يعد أي من الذين يدلون بدلوهم في شأن الاستحقاق الرئاسي يتحدثون عن ضرورة تأليف الحكومة، بعد أن يئسوا من إمكان اتفاق الرئيس عون مع رئيس الحكومة المكلف تشكيلها نجيب ميقاتي الذي يرأس في الوقت نفسه حكومة تصريف الأعمال التي يشكك الفريق الرئاسي العوني بشرعية تسلمها صلاحيات الرئاسة في حال عدم انتخاب البديل.
بري يفجرها مع عون بعد هجوم الأخير عليه
وفي أربع خطب مهمة استمع إليها اللبنانيون من مراجع رئيسة في خلال أقل من أسبوع كان استحقاق تشكيل الحكومة آخر الاهتمامات، وقفز موضوع الرئاسة إلى الواجهة.
رئيس المجلس النيابي نبيه بري الذي ألقى خطاباً مطولاً في الذكرى الـ44 لاختطاف مؤسس حركة “أمل” الإمام موسى الصدر، الأربعاء الـ31 من أغسطس (آب) الماضي، شن فيه حملة على الفريق الرئاسي العوني من دون أن يسميه، وبدا أنه قطع شعرة معاوية معه، بسبب الخلاف على مقاربة الرئيس عون وصهره رئيس “التيار الوطني الحر” النائب جبران باسيل، لتأليف الحكومة، بعد أن كان رئيس البرلمان يقترح على ميقاتي الحلول الوسط لعل الحكومة تتألف، رافضاً التفسيرات القانونية التي يطرحها مستشارو رئيس الجمهورية حيال عدم شرعية حكومة تصريف الأعمال، داعياً إلى حصر تفسير الدستور بالبرلمان. ووصف هؤلاء بأنهم أصحاب “الإرادات الخبيثة التي تعمل على إسقاط البلد في دوامة الفراغ”.
وجاء خطابه بعد أقل من ساعتين على انتهاء الاجتماع الخامس بين عون وميقاتي في التوصل إلى قواسم مشتركة في شأن ولادة الحكومة، وانتقل بري بذلك – بعد أن لاذ بالصمت أسابيع، وشجع ميقاتي على ضرورة إنجاز الحكومة – من الإصرار على قيامها إلى تفنيد سياسة الفريق الرئاسي متهماً إياه بالتسبب بأزمة الكهرباء وغيرها من الأزمات، ليتحدث عن أن “مسؤولية المجلس ورئيسه فرض التقيد باحترام المهل المحددة لانتخاب رئيس للجمهورية والعمل لإنجاز هذا الاستحقاق”، مشيراً إلى “دعم أي لقاء يمكن أن يفضي إلى توافق وطني عام حول هذا الاستحقاق”.
في خلفيات حملة بري على الفريق الرئاسي أن المعطيات التي بلغته عن الاجتماع الذي عقده ميقاتي مع عون، قبل إلقاء الخطاب، أن رئيس الجمهورية رفض مجدداً طرح الرئيس المكلف أن يتم تغيير وزيرين فقط من الحكومة الحالية (24 وزيراً) وكرر المطالبة بحكومة سياسية من 30 وزيراً من ضمنهم ستة وزراء دولة، ولم يتم البحث سوى بضع دقائق، بحسب مصادر واكبت المشاورات بين الرئيسين. وأوضحت هذه المصادر أن عون استفاد من أكثرية الوقت الذي استغرقه اجتماعه مع ميقاتي من أجل شن هجوم على بري، متهماً إياه بأنه أفشل ولايته.
مبادرة رئاسية لـ”التغييريين” تتجاهل الحكومة
وأعقب كلام بري إعلان كتلة النواب “التغييريين” الـ13 مبادرتهم حول الاستحقاق الرئاسي، في خطوة حددت معايير للرئيس المقبل، معتبرين أن “الخطوة الكبرى الفاصلة الحاسمة التغييرية هي في الاستحقاق الرئاسي وأن التغيير يبدأ من هنا”، متجاهلين مسألة تأليف الحكومة بالكامل، ونصت المبادرة على أن “من المواصفات المطلوبة في الرئيس أن يستعيد الصلاحيات السيادية الأمنية والدفاعية والمالية والاقتصادية للدولة المركزية، يؤمن بالدولة، بالدستور، بالقانون، ويكون فوق الأحزاب والأطراف، فوق الاصطفاف، والغلبة، والفئوية والاستئثار، والمصادرة والتبعية، متحرراً من كل التزام مسبق سوى قسمه، واعياً التناقضات والتنوعات والاختلافات والصراعات الداخلية والخارجية، ملتزماً كتاب الدستور”.
وتطلق كتلة النواب الـ13 سلسلة لقاءات للتشاور مع سائر القوى السياسية والكتل النيابية، بما فيها التي كانت رفضت التعاون معها منذ دخولها البرلمان في مايو (أيار) الماضي، والتشاور الذي قرروا القيام به خلال الأسبوعين المقبلين يتمحور حول شخص الرئيس العتيد، في تحرك أعاد الحيوية نظراً إلى انخراطهم الجدي في الاستحقاق الرئاسي بعد أن كان موقفهم يقتصر على رفض مرشحي الطبقة السياسية التي قامت ضدها ثورة “17 تشرين” 2019 التي انبثقوا منها وخاضوا الانتخابات. وأوضح أحد النواب التغييريين أنهم سيقترحون على الكتل النيابية أسماء مرشحين عدة سيبقونها سرية حتى لا تدخل بازار حرق الأسماء، وحتى لا يثيروا حساسية بعض الكتل النيابية التي يمكن أن تعتبر أنهم يسعون لفرض مرشح بعينه.
الراعي: تعمد الشغور خيانة
وفي اليوم التالي، الأحد الرابع من سبتمبر (أيلول)، قال البطريرك الماروني بشارة الراعي “محاولة جعل الآليات الديمقراطية ضد المؤسسات، وتحويل الأنظمة التي صنعت لتأمين انبثاق السلطة وتداولها بشكل طبيعي وسلمي ودستوري، إلى أدوات تعطيل، يتبين من خلالها وجود مشروع سياسي مناهض للبلاد”، ولم يأت الراعي على ذكر تأليف الحكومة بكلمة واحدة انطلاقاً من رفضه التورط في سجال حول شرعية حكومة ميقاتي الحالية أو عدم شرعية تسلمها سلطات الرئاسة في حال الفراغ، مع أنه كان يشدد في عظاته الأسبوعية على ضرورة تشكيلها، بل اعتبر أن “تعمد الشغور الرئاسي مؤامرة على ما يمثل منصب الرئاسة في الجمهورية، بل هو خيانة بحق لبنان”، وأن “طرح الشغور الرئاسي” أمر مرفوض من أساسه، فانتخاب رئيس جديد ضمن المهلة الدستورية هو “المطلوب الأوحد”، وفند الراعي المواد الدستورية التي توجب انتخاب الرئيس، ورأى أن “التلاعب برئاسة الجمهورية هو تلاعب بالجمهورية وحذار فتح هذا الباب. البطريركية المارونية المعنية مباشرة بهذا الاستحقاق وبكل استحقاق يتوقف عليه مصير لبنان تدعو الجميع إلى الكف عن المغامرات والمساومات، وعن اعتبار رئاسة الجمهورية ريشة في مهب الريح تتقاذفها الأهواء السياسية والطائفية والمذهبية كما تشاء. إن رئاسة الجمهورية هي عمود البناء الأساس الثابت الذي عليه تقوم دولة لبنان، وإذا تم العبث في هذا العمود فكل البناء يسقط”.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
موقف الراعي هذا كان الأعنف حيال احتمال الفراغ الرئاسي وسط تنامي شعور مسيحي بأن بعض القوى السياسية في الطوائف الأخرى، وجزءاً منها بين المسيحيين، أخذت تستسهل إبقاء المنصب المسيحي الأول شاغراً لفترة من الزمن، كما حصل قبل انتخاب الرئيس ميشال عون عام 2016، حين عطلت كتلة الأخير مع نواب “حزب الله” انعقاد البرلمان حتى ضمان اختيار الكتل الأخرى لعون.
جعجع: مستعد للتضحية لأجل رئيس يعمل “عكسهم”
وفي اليوم نفسه لعظة الراعي حدد رئيس حزب “القوات اللبنانية” سمير جعجع في مهرجان حزبي في ذكرى شهداء حزبه، مجدداً، مواصفات الرئيس المقبل، في سياق حملة عالية النبرة على العهد الرئاسي المنقضي قبل نهايته منتصف ليل 30 أكتوبر (تشرين الأول) المقبل، وعلى فريق “التيار الوطني الحر” وعلى حليفه “حزب الله” من دون تسميتهما، مطالباً برئيس “يعمل عكسهم ويتحدى من أوصلنا إلى الغرق”. ودعا جعجع إلى رئيس “تحد وإنقاذي غير خاضع لميليشيات غير شرعية خاضعة لدولة خارجية، يدافع عن سيادتنا ويستعيد لنا كرامتنا ويعيد القرار الاستراتيجي للدولة بدلاً من أن يساعد في بقائه خارجها، رئيس قوي وقادر على أن يقول لا من دون خوف على مكتسباته أو رأسه أو رأس وريثه وولي عهده لا رئيس وسطي يتحدى الفساد والفاسدين والتهريب والمهربين وأصحاب معامل الكبتاغون وجميع من يغطيهم ويحميهم، وكل من تسول له نفسه اتخاذ قرار سيادي واحد بدلاً من الدولة”. ورأى جعجع أن الرئيس عون “أضعف رئيس في تاريخ لبنان، خاضع وخانع، ضحى بشعبه ووطنه خدمة لمصالحه الشخصية”. ولم يأت جعجع على ذكر تشكيل الحكومة إلا من باب اتهام الفريق الرئاسي بمنع تأليفها، قائلاً “يعطلون تشكيل حكومة جديدة، ويتحضرون كما دائماً لتعطيل الانتخابات الرئاسية لمحاولة الإتيان بجبران باسيل أو حدا من عندو رئيساً للجمهورية”. وأشار إلى من سماهم “أصحاب الكذبة الكبرى حول تحصيل حقوق المسيحيين بغية تحقيق حقوقهم ومكتسباتهم الشخصية على حساب المسيحيين” بأنهم “مستمرون في نهجهم التدميري”.
فرصة توافق السياديين على رئيس
لكن رئيس حزب “القوات” دعا كتل وأحزاب ونواب المعارضة “على اختلاف تلاوينها إلى التجمع حول مرشح إنقاذي واحد للوصول إلى سدة الحكم، وفي حال لم نسلك هذا الطريق فعندها نكون خنا الأمانة الشعبية”. وقال، “نحن غير متمسكين بأي شيء، لا بل نحن مستعدون للتضحية بكل شيء”، في إشارة إلى الاستعداد للتوافق على اسم الرئيس المقبل، موحياً إلى أنه ليس مرشحاً بالضرورة للرئاسة وقابل للتفاهم مع القوى الأخرى منعاً لمجيء رئيس من قوى “الممانعة” وحلفاء “حزب الله”.
وفي وقت يؤشر كلام جعجع إلى تقدم في الاتصالات التنسيقية بين حزبه وبعض الفرقاء “السياديين” والمستقلين، الذين حضر بعض منهم مهرجان “القوات” مثل ممثل عن حزب “الكتائب” وكتلة “الاعتدال الوطني” التي تضم أربعة نواب بينهم أشرف ريفي وفؤاد مخزومي، إضافة إلى النائب ميشال معوض، والنائب عن “مشروع وطن الإنسان” نعمة فرام، يتوقع الوسط السياسي أن تتسارع محاولات التوصل إلى تفاهم على اسم محدد يمكن لكتلة النواب “التغييريين” أن تلعب دوراً فيه، بعد المبادرة التي أطلقوها، خصوصاً أن الوسط السياسي اعتبر تحركهم واقعياً ويتصف بالحكمة من زاوية محاولتهم “التوافق” على اسم معين، بعد أن كان بعض السياسيين يتهمهم بالشعبوية وخضوعهم للغة الثورة في الشارع، في وقت دورهم في البرلمان يجب أن يكون مختلفاً. ورأى منتقدو “التغييريين” من هذه الزاوية أنهم أعطوا انطباعاً مختلفاً عن توجهاتهم من خلال الأفكار التي طرحوها.
يبقى أن تنجح هذه التطورات في نقل المشاورات إلى مرحلة التوافق في شكل يسمح بتشكل أكثرية تضمن انعقاد البرلمان بنصاب الثلثين (86 نائباً) إذا دعا رئيس البرلمان إلى جلسة انتخابية، وبينما يتوقف الأمر على تظهير الأسماء التي يمكن الاتفاق عليها، في الأسبوعين المقبلين، لا سيما أن جعجع رفض المرشحين الوسطيين، فإن الأمر مرهون أيضاً بمدى تناغم كتلتي “اللقاء الديمقراطي” و”الحزب التقدمي الاشتراكي” برئاسة وليد جنبلاط، والنواب السنة الأصدقاء لتيار “المستقبل”، مع التوجهات التي يطرحها جعجع وكتلة النواب “التغييريين”.
وفي انتظار موقف “التيار الوطني الحر”، فإن ما يجمع مواقف القوى الأربع الفاعلة التي أدلت بدلوها تباعاً: بري و”التغييريون” والبطريرك الراعي وجعجع، هو تطبيق الدستور في وقت “التيار الحر” يدعو إلى تعديله.
التعليقات