التخطي إلى المحتوى

تنفس العراقيون وشعوب المنطقة الصعداء بعدما أخمد زعيم التيار الصدري مقتدى الصدر ما بدا أنها حربا داخلية توشك أن تأخذ العراق بعيدا في طريق التشظي والتناحر الأهلي.

لكن هل يمكن القول إن المشكلة قد انتهت عند هذا الحد؟ وهل سنشهد شيئا من الاستقرار السياسي المدعوم بحوار ونقاش بين مختلف الفرقاء سواء من الكتل الحزبية أو الميليشيات المسلحة التي باتت جزءا رئيسيا من المشهد السياسي في العراق؟

يصعب قول ذلك حتى وفق أكثر التحليلات تفاؤلا.

الواقع أن الأسوأ ربما يكون أمام العراقيين وليس خلفهم. وأن ما جرى قد يشجع من يرى في نفسه القدرة على المغامرة على الاستزادة من العدة والعتاد حتى تحين الفرصة، وذلك بالنظر الى السهولة النسبية التي تمت بها عملية اقتحام أنصار مقتدى الصدر للمنطقة الخضراء وسيطرتهم على القصر الجمهوري وحصارهم لمبنى البرلمان.

والواقع أن المزاج الشعبي العراقي ورغم مرور قرابة 20 عاما لا يبدو أنه قد استساغ “الديمقراطية” ومؤسساتها، وهو يبدو كمن لا يزال يبحث عن زعيم قوي يتمتع بالكاريزما ويستطيع أن يوحد العراقيين ويوفر لهم، وإن شكليا ووقتيا، ما يحتاجونه من دعم معنوي ومادي. 

هذا على الأقل ما تدل عليه الطريقة التي يقود بها الصدر أتباعه سواء حثهم على الخروج للشارع أو دعاهم إلى العودة منه.

إن استجابة هؤلاء وهم بالملايين للصدر واستعدادهم للتضحية بأنفسهم في سبيله تكشف عن حجم التوق إلى مثل هذا الزعيم رغم أن الصدر نفسه لا يمتلك الكثير من مواصفات الزعامة!

وهذا النزوع لا يقتصر على العراق وحده، بل هو موجود أيضا في بعض المجتمعات حول العالم، وفي مجتمعاتنا الناطقة بالعربية يمكن أن نلحظ بوضوح كيف تكرس الثقافة السائدة الحاجة إلى الزعيم القوي الذي تسير خلفه الجماهير وتهتف باسمه وتموت من أجله، وفي الأزمات تحمله جميع مشاكلها ومآسيها وصولا الى الثورة عليه وإسقاطه. بالضبط كما كان بعض الأعراب يفعلون قديما – بحسب ما يحكى عنهم – إنهم كانوا يصنعون تماثيل من التمر يتقربون بها إلى الله ثم إذا جاعوا أكلوها.

والواضح أن السياسيين العراقيين يدركون حاجة مواطنيهم إلى زعيم، ولكن لا أحد منهم يملك الجرأة للتقدم وأخذ زمام المبادرة والسيطرة على الوضع. وسبب ذلك فيما أعتقد أنهم يعلمون بأن هذا الطريق لا مستقبل له.

إن أيا منهم لن يكون مثلا في مستوى بطش وإجرام صدام حسين، وأيا منهم لن يتمكن من إنشاء أجهزة عسكرية وأمنية مثل الحرس الجمهوري وفدائيي صدام وجيش القدس وغيرها من أجهزة القمع ومع ذلك فقد ضاقت الأرض بصدام حتى انتهى به الأمر طريدا ومختبئا في جحر تحت الأرض حيث عثر عليه واعتقل وأعدم. 

لذلك فهم يفضلون أن يحكموا، ولكن من خلال الشراكة مع الآخرين وفي إطار معقول مما يتعارف عليه العالم بالانتخابات وما شابه ذلك.

فهذا رغم أنه لا يمنحهم السلطة المطلقة، لكنه يوفر لهم غطاء شرعيا للحكم والحصول على الامتيازات ويمنع منتقديهم من الذهاب إلى حد الطعن في شرعيتهم.

بيد أن ذلك كي يحدث بصورة طبيعية أو يكتسب جدية حقيقية، كان يفترض بهؤلاء السياسيين بمختلف طوائفهم وانتماءاتهم، أن ينشغلوا أيضا بتحويل العراق من مجرد مفهوم أو تصور إلى دولة حقيقية، لكن تبين أنهم بعيدون عن ذلك. وقد أظهرت الأحداث الأخيرة أن الدولة العراقية لا تزال مجرد مشروع لم يكتمل. وفي ظل غياب الدولة يظل الاستقرار والأمان أمران بعيدان المنال. ويصبح النزوع الجماهيري نحو الزعيم أو الديكتاتور نزوعا متجددا.

ولا يتحمل السياسيون الحاليون وحدهم هذه المسؤولية. الواقع أن الدولة العراقية ومنذ إنشائها على يد البريطانيين في عام 1921 تعرضت إلى ضربات كبيرة ابتداء من تمرد العشائر إلى انقلاب عبد الكريم قاسم على الملكية وحتى عهد صدام حسين الذي حولها إلى جهاز تحت إدارته وتصرفه الشخصي.

وقد حاولت الولايات المتحدة في عام 2003 وما تلاه أن تعيد بناء الدولة العراقية ومؤسساتها على أسس حديثة، لكن تبين أن الأمر ليس بهذه السهولة، إذ لا تكفي القوانين أو النوايا الطيبة وحدها لتحقيق ذلك، وإنما بحاجة إلى وقت وإلى نخب سياسية ومجتمعات تؤمن بأهمية وجود الدولة وتخضع لها وتعمل على حمايتها، بدلا من العشيرة أو الطائفة، ويبدو أن مجتمعاتنا العربية عموما تتحرك ببطيء شديد في هذا الاتجاه.   

التعليقات

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *