تصرّ وزارة الطاقة متمثّلة بجميع وزرائها المتعاقبين، بتجهيل حقيقة المياه والمشاريع المرتبطة بها. وفي معرض التجهيل، يتم تقديم معلومات خاطئة حيناً ومنقوصة حيناً آخر، أو لا يتم ربطها بالأسباب الحقيقية أحياناً.
وفي السياق، يقول فيّاض في المؤتمر الذي حمل عنوان “المياه في قلب العمل المناخي”، أن “المصادر التقليدية (للمياه) أصبحت أكثر ندرة وخصوصاً مع تغيّر المناخ، فأصبح الإتجاه نحو المياه غير التقليدية المكلفة من ناحية الاستثمار والتشغيل، كما ازدياد عدد السكان ما انعكس حاجةً لإنشاء مشاريع ضخمة تلبي الحاجة”.
صحيح أن العالم يشهد نقصاً في وصول المياه إلى محتاجيها، لكن معالجة الأزمة تختلف بين بلد وآخر حسب الظروف الطبيعية والقدرة على التمويل وتنفيذ المشاريع. وبالتالي، يصبح ضرورياً التأكيد على أن المصادر التقليدية للمياه في لبنان، وهي المصادر السطحية للمياه، ليست بالسوء الذي تصوّره وزارة الطاقة. فالطبيعة قدّمت 14 نهراً تطرح مياهها بفيض كبير في الشتاء والربيع، وتتراجع في الصيف، وبدل الاستفادة من الأنهار، جرى تلويثها، بشكل أساسي، بمياه الصرف الصحي. مع أن الوزارة نشطت بمشاريع شبكات مياه الصرف الصحي، لكن حجم الصفقات التي تتم عبرها، أقل بكثير من صفقات السدود، على سبيل المثال، فكان أن نُفِّذَ الجزء المتعلّق بالحفر وصبّ الاسمنت، وتوقَّفَ العمل بمحطّات الضخ والتكرير، ولم تكتمل المشاريع. واتّجهت الأنظار نحو السدود كحلّ لتأمين المياه، وهناك أنفِقَت مئات ملايين الدولار.
ولأنَّ “المردود على الاستثمار في قطاع المياه هو طويل الأمد”، وفق فيّاض، أُهمِلَت مشاريع الآبار الجوفية وتنظيف الأنهار والينابيع، وجرى تلميع صورة السدود كحلٍّ أسرع وأكبر لمشكلة نقص المياه. علماً أن تقرير خبراء برنامج الأمم المتحدة الإنمائي UNDP أوصى، منذ العام 1970، باعتماد المياه الجوفية في كل لبنان.
تحقيق التنمية المستدامة
يبحث مؤتمر القاهرة في “السياسات في البلدان التي تعاني من ندرة المياه لتحقيق أهداف التنمية المستدامة”. وتحت هذا البحث، كان من المفترض بفيّاض والوفد المرافق، عرض إنجازات الوزارة ومصالح المياه. وأظهَرَ الوزير مظلوميةً تجلَّت بفقدان لبنان “بين ليلة وضحاها، قدرته على الاستثمار وعلى جذب التمويل”. وهذا الأمر عرقَلَ تنفيذ الاستراتيجية الوطنية لقطاع المياه. وحسب الإستراتيجية “كان من المفترض زيادة قدرة التخزين السطحية عبر بناء السدود بحوالى 880 مليون متر مكعب، بكلفة تصل إلى 2.4 مليار دولار، لتأمين الأمن المائي حتى عام 2035 وذلك عبر استثمارات داخلية من ضمن الموازنة العامة لقسم من هذه المشاريع، وتمويل خارجي عبر الصناديق العربية والدولية للقسم الأكبر منها”.
تناسى الوزير أن مكمن الخلل يقبع داخل الوزارة ومؤسسات المياه. فبالاستناد إلى مصادر في مؤسسات المياه، فإن تلك المؤسسات هي “عبارة عن حزبية تعجّ بالمياومين، وعملها يفتقد للشفافية، وتتهرب حالياً من تطبيق قانون الشراء العام. أما وزارة الطاقة، فتمتنع عن وضع مخطط توجيهي للمياه. وبالتالي، تبقى الشبكات مهترئة وملوّثة وبلا صيانة، ومع ذلك، يتحدّث الوزير عن زيادة التعرفة التي ستذهب لتمويل رواتب المياومين الوهميين، وليس إصلاح القطاع”. وتكشف المصادر في حديث لـ”المدن”، أن الفساد لم يتوقَّف في الوزارة ومؤسسات المياه رغم الأزمة، فجرى “إنفاق أكثر من 30 مليون دولار تحت ستار المحروقات لتأمين المياه للمناطق. ودُفِعَت الأموال من الجهات المانحة ولم يعرف أحد كيف صُرِفَت”.
الفساد في مؤسسات المياه، والمغطّى من وزارة الطاقة، يمتدّ إلى عدم تعيين الموظّفين الأصيلين في الأماكن الشاغرة، وعدم الالتزام بالقوانين والأنظمة، ومنها “نظام الاستثمار الذي يقول بأن على مؤسسات المياه، كل سنة، تحييد ما يوازي قيمة استهلاك البنى التحتية، توضَع في حساب خاص وتُصرَف على إعادة تأهيل الشبكات. وعلى مدى سنوات، لم يتم وضع أي مبلغ جانباً، ولم تُجرَ أي جردة بأصول المؤسسات، لا قديماً ولا حديثاً”. على حد تعبير المدير العام السابق للاستثمار في وزارة الطاقة، غسان بيضون، الذي يؤكّد لـ”المدن” أن الأحوال في مؤسسات المياه متفلّتة “فهناك أشخاص في مؤسسات المياه، يبيعون المياه للمقتَدرين لتعبئة المسابح وريّ البساتين”. ويضيف، أن “الأموال التي أتت لمصالح المياه، من المنظمات الدولية، جرى توزيعها وإهدارها، ومَن لم يلتزم من الموظفين أو المدراء بتعليمات وزراء الطاقة لتسهيل الهدر والفساد، جرى التضييق عليهم. وأحد الأمثلة على ذلك، هو طَلب أحد وزراء الطاقة السابقين، من مؤسسة مياه لبنان الشمالي، بوضع قائمة بمشاريع خاصة لمنطقة البترون، وتمويلها من أموال المؤسسة. لكن جرى رفض الطلب”.
النازحون والكوليرا
للنازحين السوريين حصّة في استعطاف المجتمع الدولي والضغط عليه أحياناً (أو ابتزازه)، لتأمين التمويل للمشاريع. وفي الوقت الراهن، تنتشر الكوليرا في مخيمات النازحين السوريين، ما يسهّل على وزارة الطاقة استجداء التمويل لمشاريع المياه. ولأن ملف السدود لم يُطوَ، تلاقت الكوليرا مع السدود، فكان تركيز فيّاض على حشد الطاقات لتنفيذ المشاريع بالشراكة بين القطاعين العام والخاص، وبتمويل من “الحكومات والجهات المموّلة”.
المشكلة في هذا السياق تأتي من الجهات الدولية المموِّلة، وعلى رأسها البنك الدولي واليونيسف. ويُجمِع المتابعون لملف الطاقة والمياه في لبنان على أن “عدداً من مدراء المنظمات الدولية فاسدون وسماسرة. والبنك الدولي هو أسوأ من القطاع العام اللبناني. والمؤسسات الدولية لا تتعاطى مع الإدارات الرسمية، بل مع الوزير ومستشاريه. ليقع ملف المياه تحت وطأة الهدر والفساد، وينحصر عمل وزراء الطاقة باستقطاب الاستثمارات لأجل السمسرات، فيما اللبنانيون يشترون المياه في بلد الأنهار”.
التعليقات