محمد كوثراني ليس خضرا ولا قاسم. بغض النظر عن اختصاصه المبهم، الهندسة الثقافية، فكوثراني ابن عصر السوشال ميديا. يسمى مؤثراً، وهو كذلك. يراقب ما الذي يجري على الضفة الأخرى من النهر، وعلى الأرجح يعلم أن الشيخين لم يعودا مقنعين حتى لأبناء وبنات البيئة. لذا فكوثراني يجتهد. يحاول خارج الصندوق. يحكي مع المجهول الذي لا نراه خلف الكاميرا أسوة بزملائه المؤثرين. يطعّم كلامه بالكثير من الإنكليزية ويسخر من الليبراليين بالطريقة نفسها التي يسخر فيها الليبراليون من أمثاله، بالتسخيف التام لهم ولأفكارهم.
كوثراني، الصادق والمتمكن من لغته حين تجنح عاطفياً، والفخور بجذوره ولهجته وتاريخه الخاص به لطائفته، والواثق باعتقاده الراسخ بأنه مختلف عن البقية الباقية في حزب الله نفسه، نواباً وشيوخاً ومدّعي يسار على حد سواء، يظن أنه يؤدي خدمة جليلة للقضية إذ يأتي بخطاب مغاير.
محمد كوثراني هو أفضل انتاج مرئي لحزب الله في العقدين الأخيرين على الأقل. نواب الحزب ووزراؤه وشيوخه وإعلاميوه واتباعه الضيوف الدائمون على شاشاته باتوا مضجرين بما لا يقاس، ناهيك عن مهرجي تويتر الذين يسيئون له أكثر مما يخدمونه. ليس في ساحة مواجهة الخصوم إلا محمد كوثراني، الهادئ الواثق المهذب الذي يحاول ما استطاع أن يقارع الآخرين بلغتهم “الحديثة”. في الشكل، السجال مع محمد كوثراني ممكن جداً، لأنه ليس متطرفاً مثل خضرا وقاسم، ولأنه ليس انتهازياً مثل من عُجِنوا وخُبِزوا. لكن كوثراني يعاني مشكلة جوهرية في المضمون. فهو يعيش تحت وطأة مؤامرة أميركية مستمرة على الشيعة منذ الخمسينيات، وليس على الأقل مذ تسلم روح الله الخميني السلطة في إيران في العام 1979. كوثراني، في المؤامرة المستمرة في ذهنه منذ مراهقته، يرى في أميركا محفلاً ماسونياً يتحكم بالكوكب، ويرسم كل مخططاته لتدمير الشيعة حصراً. مشكلة كوثراني أنه شيعي فوق العادة، مبهور بشيعيته حتى يكاد يظنها فعلاً محور الكوكب، وأن كل ما حدث ويحدث على مستوى السياسة والاقتصاد والعلوم والتكنولوجيا والحروب، ما هو سوى مخطط لحصارها وتدميرها. لكنه، في انبهاره العظيم، وفي فوقيته الهائلة، يعلم أنه كما انتصر سابقاً فسينتصر مجدداً. وإذا كانت هذه رسالة كوثراني للشيعة، فشجرة سامي خضرا بدلاً من صورة الأخت في الفيسبوك تظل أرحم.
كوثراني يعيش في عالمه الغريب، ويسوّق بصدق لصورته الوهمية، مأخوذاً بنوستالجيا لا تنضب لحزب الله البدايات، حين كان تنظيماً سرياً يخطف الطائرات ويفجر السفارات. كوثراني ما زال عالقاً في ذاك التنظيم “الثوري” و”الحالم” الذي لم يبق منه شيء في الحزب الحالي المنخرط في الدولة والمسيطر على مفاصلها. الحزب الذي مثله مثل “الكتائب” و”القوات” و”أمل”، والعونيين والاشتراكيين، زائداً جيشه وصواريخه المتنازع على شرعيتها بالطبع. صورة كوثراني عن حزب الله وأميركا وإيران آتية من من زمن انتهى. وإذا اخذته الخفة حين قرر أن ترسيم الحدود البحرية انتصار شيعي محض، فلأنه لا يجيد إلا سياقاً واحداً في الوصول إلى استنتاجه: كل ما نخوض فيه، ننتصر في نهايته. ما أعظمنا!
ابن البيئة، في تمجيده لها، يعيش انفصالاً تاماً عنها. يعاملها بفوقية لا تحتمل، إذ ينسب لها هذا الانتصار الجديد العظيم الذي سيمر وقت طويل قبل أن ترى مردوده في الشياح وصفير والغبيري وبرج البراجنة. كوثراني يجيد لهجة الضاحية لكنه، مثل الشيخين، لا يجيد لغتها، يعيش في فقاعته، في متوالية انتصاراته وحنينه الجارف إلى ماضٍ رومانسي لا غبار فيه.
لكن حسين قاووق، الممثل والنجم الكوميدي الشاب موجود، بالمرصاد. نشر فيديو بلغ ربع مليون مشاهدة في يوم. قاووق ابن شوارع الضاحية. يجيد لغة شبانها وسخرية ناسها وتهكمهم على نموذج كوثراني الذي “أبجدية النصر”، وفي فيديوهاته، يحكي عن طائفة خيالية، تشبه لوحات الطبقة العمالية في اتحاد ستالين السوفياتي، أو شباب وشابات العرق الآري في ألمانيا النازية. طائفة خيالية. لا تجوع ولا تعطش ولا تحبط ولا ترهق. تنام على انتصار وتفيق على آخر. تتحطم المؤامرات على صخرتها العالية مع كل آذان. حسين قاووق هو صوت آخر، مكسور، لكنه حقيقي. صوت ابن الشياح والمريجة، الذي لا ينقصه ذكاء وثقافة ووعي كوثراني، ليستنتج أن حال الطائفة والبلد ليس كما يقدمه المهندس وأن الورقة الأميركية التي وافق عليها حزب الله لم ينتزعها من بين عيون جو بايدن كما أوحى لهم، وأن الاتفاق ليس خطوة إضافية على طريق تحرير القدس، وأن الغاز الآتي ليس فانوساً سحرياً سيخرج منه مارد تحقيق الأمنيات، وأن البروباغندا هي نفسها، إن كان هناك شخص خلف الكاميرا يحكي معه كوثراني أو لم يكن هناك أحد.
كوثراني الذي لا يجيد إلا الانتصار، لم يهزمه فيديو حسين قاووق حين حول كلامه إلى مهزلة وجعله أضحوكة، على قساوة هذا التعبير. حماسة كوثراني هي التي هزمته. وهمه الزائف بالتفوق الدائم وفوقيته على أبناء طائفته بالتحديد، أوقعاه في ما وقع فيه. وهو درس جيد في التواضع على أي حال، لن يستفيد منه لا هو ولا حزبه، ولا سامي خضرا بالطبع.
التعليقات