التخطي إلى المحتوى

تشهد كتابات الإمام موسى الصّدر وخطبه على مخاوفه، وتسلّط الضّوء على التحدّيات التي كان ينوي مواجهتها: التّغلغل الشّيوعيّ، والظّروف الاجتماعيّة والاقتصاديّة المأساويّة للأغلبيّة وانحسار دور الدّين وانخفاض تأثير الأوساط العلمائيّة. واجه الإمام موسى الصّدر هذه التحدّيات بكتاباته، ثمّ بنشاطه في لبنان، ليصبح من خلّال هذا الدّور أحد أعلّام النّهضة الشّيعيّة على غرار روح الله الخميني والسّيّد محمّد حسين بهشتي والسّيّد محمّد باقر الصّدر والسّيّد محمّد حسين فضل الله والشّيخ مرتضى مطهّري وغيرهم كثيرون. بالإضافة إلى صفاته الفريدة التي ستجعله واحداً من قدّيسي لبنان المعاصرين. تمثّل اهتمامات الإمام موسى الصّدر البيئة التي نشأ وتطوّر فيها خلال السّنوات الأولى من حياته، وهي الحوزة الدّينيّة في قم والنّجف. قبل تجربته اللبنانيّة، كان معاونوه الأساسيّون من رجال الدّين. يمثّل كلٌّ منهم أحد جوانب هذه النّهضة الإصلاحية الشّيعيّة التي كانت قم والنّجف مرجل انبعاثها. أمّا كتاباته التي أولت المسألة الاجتماعيّة فائق عنايتها، فهي تنبئ عن النّهج الذي اختطّه الإمام موسى الصّدر في لبنان من العام 1961 إلى حين إخفائه في العام 1978، وتشكّل الأساس الإيديولوجيّ والعقديّ الذي استخدمه في محاربة الفقر والحرمان والانحراف، ومختلف أشكال اللامساواة وعزلة الطّائفة الشّيعيّة، وفقاً لتوصيف ماجد تفريشي: «كان عدم الاكتراث بطروحات الإمام موسى الصّدر في إيران عاملاً مؤثّراً في اتّخاذه قرار البقاء في لبنان، حيث كان يأمل ألّا يعرقل نشاطه رجال الدّين التّقليديّون وحكومة مناوئة». في العام 1959، وبعد فترة وجيزة من نشر مقالاته في الاقتصاد، انتقل الإمام موسى الصّدر إلى مدينة صور في جنوب لبنان، لتولّي القيادة الرّوحيّة خلفاً للمرجع الرّوحيّ السّيّد عبد الحسين شرف الدّين، وإدارة شؤون الطّائفة الشّيعيّة في جبل عامل وكيلاً للمرجع السّيّد محسن الحكيم. بيد أنّ قراره النّهائيّ بالإقامة الدّائمة في صور، قد اتُّخِذ في العام 1960، كما تبيّن تلك الرّسالة التي كتبها الشّيخ مرتضى ياسين إلى النّائب جعفر شرف الدّين في 7 آذار 1960: «فقد علمتُ منذ أمدٍ  قريب، أنّ السّيّد العلّامّة حجّة الإسلام آية الله السّيّد موسى الصّدر قد استجاب أخيراً لدعوتكم المُلِحَّة بالهجرة إلى صور». منذ العام 1960، تميّز الإمام موسى الصّدر بانفتاحه الكبير على المجتمع المدنيّ والطّوائف الأخرى، ولا سيّما الشّخصيّات الدّينيّة التّقدّميّة النّاشطة في المجتمع، مثل المطران الرّوم كاثوليكيّ غريغوار حدّاد الذي أنشأ الحركة الاجتماعيّة (انضمّ إليها لاحقًا الإمام الصّدر). في 15 آب 1964 مثلًّ، دعا الإمام موسى الصّدر المسيحيّين إلى الاحتفال بعيد انتقال السّيّدة العذراء في بلدة شقرا الحدوديّة القريبة من بنت جبيل وقال: «الدّين لا يقتصر على الاعتكاف في المساجد والكنائس والصّلاة والعبادة وخدمة الله… إنّ الأعمال والتّجارة وإقامة السّدود وشقّ الطّرق وإحياء الزّراعة وإنماء الاقتصاد، هذه كلّها أعمال تدخل في العبادة. فالعبادة تنطوي على كلّ عمل رائده الخير للجميع، فإذا تمكنّا أن نصلح أحوال النّاس في هذا البلد، فقد عبدنا الله أكثر ممّا لو صلَّيْنا وصمنا».

في تلك الرّسالة الموجّهة إلى جعفر شرف الدّين، استشرف الشّيخ مرتضى آل ياسين بنظرته الثّاقبة مآل مسيرة الإمام موسى الصّدر، مثنيًا على الدّور الذي سيضطّلع به في السّنوات اللاحقة: «بورك لصور ومن فيها… وإنّي لواثق بأنّ هذا النّور الذي سطع في سماء صور، سوف لا يقف عند حدودها كما يقف نور المصباح عند حدٍّ من الحدود، بل إنّه، ولا شكّ سيتجاوزها ويتعدّاها، حتّى يعمّ العالم الإسلامي». في 22 كانون الأوّل 1961، أجرى الإمام موسى الصّدر حواراً مع الصّحفيّ في جريدة «الحياة» محمّد قرّه علي، أكّد فيه أنّ مهمّته الدّينيّة تهدف إلى رفع مستوى الحياة الاجتماعيّة بصورة عامّة، وإلى رفع مستوى الثّقافة الدّينيّة بصورة خاصّة». وقال: «أعتقد، بأنّه لا يمكن رفع المستوى الدّينيّ، ما دامت الحياة الاجتماعيّة على ما هي عليه، ولهذا باشرت السّعي في مدينة صور لبناء مؤسّسة اجتماعيّة لتشغيل العاطلين ومساعدة المحتاجين وإيواء الأيتام وتعليمهم الصّناعات والحِرَف». أقام الإمام موسى الصّدر في مدينة صور في منزل السّيّد عبد الحسين شرف الدّين، وأعاد تفعيل أنشطة المؤسّسة الخيريّة التي أُنشِئَت في العام 1948، ودُعِيَتْ باسم جمعيّة البِرّ والإحسان. لم يضيّع الإمام موسى الصّدر وقتًا في توسيع نشاطاته وتعزيزها، فتجاوزت شهرته حدود جبل عامل، وبجهود حثيثة، أنشأ الإمام موسى الصّدر ومعاونوه كيانًا خيريًّا وتعليميًّا حقيقيًّا. سعى ونجح جزئيًّا في ملء الفرّاغ النّاشئ من غياب الدّولة وإهمالها، ومن الحرمان المزمن النّاجم من ذلك في مناطق الجنوب اللبنانيّ وسهل البقاع وأحزمة البؤس في ضواحي بيروت.

أسس الإمام موسى الصّدر المدارس ومعاهد التّدريب المهنيّ والمساجد والمستوصفات ودور الأيتام وبرامج التّنمية الزّراعيّة. اعتمد الإمام موسى الصدر في إنجاز هذه المشاريع على النّخب المحلية والمغتربين الشّيعة في أفريقيا، واستخدم الأموال الشّرعيّة لذلك، بعد استئذان المرجع الأعلى للطّائفة. في العام 1974 ، تولى الإمام موسى الصّدر قيادة حركة اجتماعيّة وسياسيّة: حركة المحرومين. وفي الوقت نفسه، دَرَّبَ جناحًا عسكريًّا على مقاومة إسرائيل في جنوب لبنان، حركة أمل، وأكَّدَ تحالفه مع حركة فتح بقيادة ياسر عرفات. بذل الإمام الصّدر جهده لإنشاء «مجتمع مقاوم» لمواجهة التّفاوتات السّياسيّة والاقتصاديّة والاجتماعيّة والثّقافيّة، وكذلك الأعمال العدوانيّة والاجتياحات الإسرائيلية في جنوب لبنان.

تريستان هيليون لوني

– ترجمة يونس زلزلي

التعليقات

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *