يوسف أبولوز
أتذكّر قصة قصيرة قرأتها قبل سنوات طويلة، لم يعد منها في الذاكرة سوى مشهد رجل يقوم بتوضيب حقيبته قبل السفر، وقد وضع فيها ثيابه وبعض الكتب، غير أن الرجل كانت دموعه تتساقط في الحقيبة فوق ثيابه وفوق كتبه، فما كان منه إلا أن أغلق حقيبته على دموعه، وتوجه إلى محطة قطار، ومعه حزنه وأسراره..
تحيل الحقيبة، في رأيي الشخصي في هذه الكتابة الاجتهادية إلى ثلاث ثيمات إن أمكن القول:.. السفر، والامتلاك، والكتمان، أما الكتمان فهو مرتبط بِ «الصندوق» أكثر من ارتباطه بِ «الحقيبة»، ومع ذلك، فثمة كتمان في «الحقيبة»، ولعلّ دموع ذلك الرجل التي تساقطت في حقيبة سفره هي إشارة على كتمانه أو تكتّمه على أمر ما:.. حب مثلاً، ولعلَّ أكثر الدموع حرارةً هي دموع الحب.
إن المكان المرئي بوضوح بالغ بالنسبة لصورة الحقائب هو المطار أو محطة القطار، أو الموانئ.
تلك «العتبات» الثلاث المرتبطة بحالتيّْ المغادرة والقدوم. أو الهبوط والإقلاع، أو الاستقبال والوداع، ففي كل هذه الحالات يجد الإنسان نفسه في وضعين متقابلين. فهو إمّا أن يكون – على اليابسة، وإما في السماء، وإما في الجوّ، وإمّا على الأرض، أو في قطار يقطع المسافات بلا هواده وهو يطلق صفيره، ووراءه دخانه، أو يكون في باخرة أو سفينة تطلق هي الأخرى أبواقها أو صفّاراتها، وخلفها دخانها الذي لا يلبث أن يتلاشى ويغيب مع ابتعاد السفينة في فضاء الماء، وفي كل هذه الفضاءات الاستقبالية والوداعية تلازم الإنسان حقائبه. حقائب من جلد. حقائب من قماش، ومهما كانت مادة الحقيبة فلا فرق عند المسافر. المهم هو ما في داخل الحقيبة. الأشياء الصغيرة التي يمتلكها تماماً. إنها تلك الهدايا التي حملها المسافر معه، وقد تكون هدايا مبلّلة بالدموع.
(1)
إن ما امتلكه إنما أودعه في حقيبتي، وليس في حقائب الآخرين. إن ما هو لي إنما يمتلك امتيازية ملكيتي له حين يكون في حقيبتي، فأغلقها بمفتاح أو – بإبزيم على طريقة الحقائب القديمة المصنوعة القماش الخشن، وهي عادة حقائب طلبة القرى والأرياف الذين يتوجهون إلى المدن للدخول في الجامعات، غير أن ذروة الحالة الدرامية في – لحظة سفر هؤلاء الطلبة الفلّاحين وانتقالهم من الريف إلى المدينة تتمثل في انكباب الأمّهات الريفيات على حقائب أبنائهن الذين يتهيأون للسفر، وفي الغالب هن أمهات شابات – تحترق قلوبهن، وتتساقط دموعهن وهن يوضبن حقائب الأبناء المقبلين على حياة المدينة، فتقوم المرأة بملء الحقيبة بأنواع من الطعام والأكل الفلّاحي الريفي، وإن امرأة شابة تضع طعاماً لابنها في الحقيبة وتبكي بصمت، لا بد أن تكون دموعها قد انسربت في الحقيبة إلى جوار الطعام.
الحقيبة بالنسبة للمرأة الفلّاحة، بشكل خاص هي إشارة على الحزن لا على الفرح. إن الحقيبة بالنسبة لهذه المرأة الفلّاحة الشابة أو المكتهلة تعني أيضاً سفر زوجها إلى بلاد بعيدة للعمل هناك، وبالتالي الغياب إلى عام وأكثر من عام، لا بل إن بعض الأزواج لا يعودون إلى أوطانهم إلا وهم أنفسهم قد وضعوا في صناديق أو في حقائب جثثاً باردة غريبة.
ولكن بعيداً عن حقيبة الموت أو صندوق الموت هذا، لنفتح حقيبة هذا الفلّاح الذي عاد إلى زوجته وأبنائه بعد غياب. إنها حقيبة العودة. حقيبة الثياب والذهب والعطر، والقماش. حين تنفتح بهدوء – وبترقّب من الزوجة والأطفال – بعد كل هذا الفراق.
الحقيبة، أيضاً، تحمل، إذا أردت، رمزية الكتمان. إن الحقيبة مغلقة بالضرورة على – ذاتها، وهي ذات صاحبها. إن خصوصيته هو موجودة داخل هذه الحقيبة، التي ربما تنطوي أيضا على شيء من خصوصية زوجته حين يعود إليها بثياب تليق بجمالها وشبابها، غير أن هذه الخصوصية، سواءً أكانت خصوصية الحقيبة، أو خصوصية صاحبها تُنْتهك تماماً – حين يطلب رجل البوليس، أو رجل الجمارك تفتيش الحقيبة.
خفة الكائن
في رواية «خفّة الكائن التي لا تحتمل» لميلان كونديرا، نصادف مشهد إحدى الشخصيات المُطاردة من الجستابو الألماني.. كان رجلاً خائفاً، وكان يحمل حقيبة ثقيلة «لاحظ اللعب هنا على ثنائية الخفّة والثقل».. الخفّة التي لا تحتمل كالحب مثلاً، والثقل الذي يُحْتمل «على مضض بالطبع» مثل ثقل سلطة الخوف الذي يمثّلها الجستابو، وترمز لها الحقيبة الثقيلة.
غير أن حقائب فلّاحي الأرياف العربية تحديداً هي حقائب خفيفة دائما، وأخَفّ ما فيها الدموع.
من الحقائب الخفيفة هنا حقائب النساء. اسمّيها أنا الحقائب الناعمة، على وزن القوّة الناعمة أو الثقافة الناعمة إذْ ما يمكن لك أن تجده في حقيبة امرأة. هي دائماً وأبداً حقيبة يد. يد المرأة. اليد الخفيفة الناعمة، الرقيقة وهي تمسك بحقيبتها.. وماذا في الحقيبة؟ زجاجة عطر، قلم أحمر شفاه. مرآة. نظارة. قطعة قماش مخملية صغيرة، وحين زارتني أمّي في الإمارات قبل سنوات، قادمة من الأردن، وكانت فوق السبعين، وللمرة الأولى في حياتها تركب طائرة، قال لها أحد أخوتي بأن عليها أن تحمل حقيبة. «.. ضعي فيها يا – أمّي جواز سفرك دائماً»، وحين هبطت أمي في مطار دبي، ورأيتها تحمل حقيبة بنّية خفيفة وهي في هذا العمر، وفي هذه البداوة في المطار كدت أبكي، وحين فتحتُ حقيبتَها وجدت كيساً بلاستيكياً مملوءاً بالأدوية.
الحقيبة الناعمة
استدعت عندي الآن صورة الحقيبة النسائية الناعمة، صورة حقيبة أخرى هي ما تُسمى في الأعراف الدولية: «الحقيبة النووية»، ويأتي من ضمن ما يأتي في التعريف بها أنها – تجهّز خصيصاً لتخويل استخدام الأسلحة النووية.. «.. وعادة ما يتم الاحتفاظ بها بالقرب من رئيس أو زعيم دولة نووية في جميع الأوقات..».
المرأة، تلك القوّة الناعمة، لا تحمل حقيبتها في جميع الأوقات مثل زعيم الدولة النووية، بل هي لا تحمل حقيبتها إلا في المناسبات. في عرس مثلاً، أو حين تتسوّق، أو تسافر، مثلما سافرت أمي للمرة الأولى في حياتها، وحملت حقيبة ناعمة مملوءة بالدواء.
لا أسماء أيضاً للحقائب. سواءً أكانت حقائب نسائية أو رجالية، غير أن الحقيبة النووية الروسية كما جاء في الويكبيديا تسمّى «تشيجت».. «.. وهي موصولة بنظام اتصالات خاص يدعى كازبيك يضم جميع الأفراد والوكالات المشاركة في القيادة والتحكم في الاستراتيجية النووية..»، وفي فرنسا، أيضاً -بحسب الموسوعة الإلكترونية الحرّة- توجد حقيبة سوداء تُسّمى «القاعدة المتحركة» ترافق الرئيس في رحلاته، ولكنها ليست حقيبة نووية.
أخفّ من الحقائب النووية هناك دائماً الحقائب الدبلوماسية، وهذه لها حصانة عدم فتحها أو تفتيشها.
يحمل الحقائب الدبلوماسية أعضاء البعثات الدبلوماسية المتبادلة بين الدول، ولا يجوز مصادرتها أو توقيفها، حتى الدبلوماسي يمتلك الحصانة، وبذلك، فهذه الحقيبة تحمل اعتبارية سيادية محترمة، ولكنها من حيث الخطورة أقل بكثير من خطورة الحقيبة النووية.
ترتبط التشكيلات الوزارية في حكومات العالم بمصطلح «الحقيبة»، وهي هنا حقيبة مجازية، فهناك وزير يجري تكليفه من جانب رئيس الوزراء المكلف من الرئيس أو من زعيم الدولة بأن يحمل حقيبة وزارة الزراعة، أو حقيبة الثقافة، أو الإعلام، وهكذا، غير أن هناك وزيراً لا حقيبة له. إنه وزير، ولكن من دون حقيبة وزارية محدّدة، والوزير بلا حقيبة في هولندا يُسّمى «الوزير الصغير»، لكن عدم حمل هذا الوزير حقيبة في حدّ ذاتها لا يمنع من أن يقوم بكل امتيازاته الدستورية في الوزارة مثل التصويت مثلاً.
حقيبة الشاعر
في سبعينات وثمانينيات القرن ال 20 بشكل خاص كان من المألوف أن ترى الكثير من الشعراء العرب تتدلى من أكتافهم حقائب الجلد، واشتهر الشاعر محمد القيسي بحقيبته الجلدية البنية أو الأقرب إلى الأحمر، ونادراً ما كان القيسي يحمل حقيبة سوداء، وكان الشاعر خالد أبو خالد يحمل حقيبة كتف «ثقيلة» إذا اهترأت أو اهترأ جزء منها يقوم بترقيعها برقاع جلدية، ويضيف إليها بعض الأبازيم والمفاتيح، وكان حيّ الفاكهاني في بيروت في ثمانينات القرن ال 20 يعج بشعراء مقاهي الرصيف وشعراء الحقائب، وغالبيتهم من شعراء الحداثة. غير أن الملاحظ في أفق الحقائب هذا أن نقّاد الأدب على نحو خاص ليسوا أبداً حاملي حقائب أو مثقفي حقائب إن جازت العبارة، وكذلك الروائيون، وذهب امتياز حمل الحقيبة للشعراء فقط.
.. واليوم، يحمل الشباب من الجنسين حقائب الظهر، وكلها حقائب قماشية، وليست جلدية إلا في ما ندر.
الحقائب «الظهرية» اليوم هي حقائب الشارع وحقائب جيل يختلف كلياً عن جيل السبعينات والثمانينات الثقافي والشعري «الرصيفي». هنا، والآن، ثمة شباب حرّ يحمل حقائب عادية وبسيطة، لكن ماذا داخل هذه الحقائب الجديدة؟.. هل ثمة كتب أو دموع؟؟، هل ينبغي فتح هذه الحقائب أو مراقبتها؟، الأرجح أنه ينبغي للمرء أن يحمل حياته على ظهره إذا كان لا بد من حقيبة تشبه الإنسان الذي يحملها.
أخيراً، إليك قصة طالبة يمنية وجدت نفسها فجأة في مواجهة حملة تفتيش على حقائب الطالبات من جانب مديرة المدرسة ومعلمات يساعدنها في البحث عن أشياء ممنوعة قد تحملها الطالبات في حقائبهن، وحين جاء دور تفتيش حقيبتها رفضت فتحها، وحين أصرّت الطالبة على عدم فتحها للمديرة والمعلمات أَيْقَنَّ هؤلاء أن الطالبة لا بد أنها تحمل ممنوعاً يجب الكشف عنه، فَغَصَبْنَ الطالبة على فتح حقيبتها – ليتبين أن كل ما فيها هو بقايا ساندويتشات كانت الطالبة تجمعها مما يتركنه زميلاتها من طعام لتوفر هذا الأكل لأمها المريضة.. حينها أجهشت المديرة والمعلمات والطالبات بالبكاء.. لكن، تلك الدموع لا تشبه بأي حال دموع ذلك المسافر التي تساقطت فوق ثيابه. كما أن حقيبة تلك الطالبة التي كانت توفر بقايا الطعام لأمّها لا تشبه مطلقاً لا حقيبة السيد الرئيس، ولا هي حقيبة محصّنة مثل حقيبة الدبلوماسي العابر للحدود بلا مراقبة، ولا تفتيش.
التعليقات