هل يصل ترسيم الحدود البحرية اللبنانية الإسرائيلية بوساطة أميركية إلى خواتيمه السعيدة في الأيام القادمة ويتجاوز قطوع المزايدات الانتخابية الإسرائيلية، بعدما اعتبر لبنان أن المسودة الأخيرة لنص الاتفاق على الترسيم التي أرسلها الوسيط الأميركي آموس هوكشتاين إيجابية وتحقق له مصالحه وتحفظ له حقوقه؟
فقد مرت عملية التفاوض على ترسيم الحدود البحرية بين البلدين على مدى أكثر من 10 سنوات، بتعقيدات وعراقيل كثيرة لبنانية داخلية، وتداخلت مع ظروف إقليمية ودولية. ولا تقل الظروف التي تتم فيها صياغة مسودة الاتفاق حراجة نظراً إلى ارتباطها بحرب الطاقة العالمية بعد الحرب في أوكرانيا، حملت واشنطن على الدفع من أجل تسريع إنجاز هذا الاتفاق. ومثلما خضعت مسودة الاتفاق للتجاذبات الإسرائيلية الداخلية لم تغب الحسابات الانتخابية أيضاً عن بعض ردود الفعل الأميركية على مسودة هوكشتاين من قبل رموز في الحزب الجمهوري ضد الرئيس الأميركي جو بايدن وتشجيعه على هذا الاتفاق. وانتقد السيناتور الجمهوري تيد كروز، ما وصفه بـ “ضغوط إدارة بايدن على الحليف الإسرائيلي للتنازل عن مناطق تابعة له”.
في لبنان أبدى كبار المسؤولين ارتياحهم إلى المسودة الخطية التي نقلتها إليهم السفيرة الأميركية دوروثي شيا، والتي وضعها هوكشتاين. وفيما كان رئيس البرلمان نبيه بري قد قال عند تلقيه المسودة رداً على سؤال صحافي استخدم مثلاً شعبياً: “قمحة أم شعيرة” بالقول “مبدئياً قمحة”، عاد فقال في اليوم التالي إثر اجتماعه مع رئيسي الجمهورية العماد ميشال عون والحكومة نجيب ميقاتي إنها “قمحة ونص”.
جواب لبناني غير نهائي واعتراضات أهلية
وقال مصدر مقرب من بري لـ”اندبندنت عربية” إنه كان يجب أن يقول “قمحتين”، مثمناً بذلك ما حصل عليه الجانب اللبناني من مكاسب. في المقابل هناك بعض الجمعيات الأهلية والأكاديميين الذين اعترضوا على استناد الموقف الرسمي اللبناني إلى الخط البحري 23 للحدود البحرية مطالبين باعتماد الخط 29 الذي كان الوفد اللبناني المفاوض قد طرحه في العام 2020، ووجهوا إخطاراً إلى الرؤساء الثلاثة ملوحين بالقيام بمراجعة قضائية في هذا الشأن. هذا مع أن نائب رئيس البرلمان إلياس بوصعب وصف الجواب الذي قدمه كبار المسؤولين بأنه ليس الجواب النهائي. وإذ استعار المثل القائل إن “الشيطان يكمن في التفاصيل”، وصف بوصعب الشياطين بأنها “صغيرة”، آملاً أن يكون التوقيع مسألة أيام لا أسابيع، إذا أُخذ بالتعديلات التي يعتبرها الجانب اللبناني طفيفة. أي أن لبنان الذي أعاد إرسال ملاحظاته في 4 أكتوبر (تشرين الأول) إلى هوكشتاين عبر السفيرة شيا، ينتظر جواباً منه بعد أن يناقشها الأخير مع الجانب الإسرائيلي. وتوقع بوصعب أن يتم التوقيع على الاتفاق على الترسيم في غضون 15 يوماً.
سجال في إسرائيل وتوظيف انتخابي
أما في إسرائيل فلم يترك منافس رئيس الوزراء يائير لبيد في الانتخابات النيابية الآتية في الأول من نوفمبر (تشرين الثاني) المقبل، بنيامين نتنياهو، الأمر يمر من دون اتهام لبيد بالتخلي عن مصالح إسرائيل وحقوقها السيادية في البحر وأنه استسلم لتهديدات حسن نصرالله. فنتنياهو يسعى إلى كسب الانتخابات في مواجهة تحالف لبيد مع وزير الأمن بيني غانتس، ورئيس الوزراء السابق نفتالي بينيت، بتحريض الجمهور الإسرائيلي على خصومه بأنهم يفرطون بحقوق الإسرائيليين والثروة النفطية والغازية. وكرّت السبحة في ما تعارفت عليه الصحافة أنه عاصفة على المستوى السياسي في الدولة العبرية، حيال مسودة الاتفاق، على الرغم من أنها لم تصبح علنية بعد. وكان لبيد قال في اليوم نفسه الذي تسلم فيه لبنان المسودة، السبت 1 أكتوب، إن الاتفاق سيحد من نفوذ “حزب الله”.
أدى السجال الإسرائيلي إلى ترجيح نقطتين: المحكمة العليا ستناقشه في 27 الجاري بناء لمراجعات تلقتها، بعد أن تقره الحكومة المصغرة يوم الخميس 6 أكتوبر وسيُعرض على الكنيست بعد إقراره. وإذا كان اعتبار الاتفاق ناجزاً يفترض أن ينتظر هذه الإجراءات القانونية كافة فإن هذا يوحي باحتمال تأخير إقراره في إسرائيل.
ملاحظات لبنانية تقنية
مع التكتم على تفاصيل المسودة الأميركية التي تقع في 10 صفحات، وضع لبنان بعض ملاحظاته التقنية عليها. خطوطه العريضة الأساسية والجوهرية باتت معروفة، أي أن الخط البحري الرقم 23 مستقيماً (من دون تعرج) هو خط الحدود بين لبنان وإسرائيل، (كما كان يطالب المسؤولون اللبنانيون منذ سنة بعد تخليهم عن الخط 29) مع حصول لبنان على عائدات حقل قانا كاملاً، بما فيه الجزء الذي يتجاوز الخط 23 نحو المنطقة الاقتصادية الخالصة العائدة لإسرائيل، على أن يتم التعويض لها عن عائدات المساحة الواقعة تحت سيادتها جغرافياً، من قبل شركة “توتال” التي التزمت الحفر في البلوك الرقم 9 حيث يقع هذا الحقل. و”توتال” تنتظر ضمان الاستقرار في المنطقة المتنازع عليها من أجل استقدام سفينة الحفر والاستكشاف.
ما تسرب عن الملاحظات اللبنانية هو الرفض الرسمي لربط حصة لبنان في حقل قانا بالتعويض من قبل شركة “توتال” لإسرائيل عن عائدات الجزء الواقع تحت سيادتها (يقارب الـ 30 بالمئة) منه. وهو موقف مبدئي يتفادى أي نوع من الاعتراف بالتعامل المالي مع الدولة العبرية، الذي يعتبره “حزب الله” الذي يواكب المفاوضات عن قرب “تطبيعاً مع العدو”. هذا على الرغم من أن بوصعب قال إن لا إحداثيات لدينا عن حقل قانا لنعرف أين ينتهي في الطرف الآخر، ولكن في ما خص الثروة الموجودة فيه سيحصل لبنان على حصته كاملة منه. أما التعوضات للجانب الإسرائيلي من شركة “توتال”، فلا علاقة له بها. ولذلك جرت محادثات بين الجانب الإسرائيلي وبين الشركة في فرنسا حول هذا الأمر من دون مشاركة لبنان فيها. ومن هنا الحديث عن دور فرنسي في تسهيل حصول الاتفاق، إذ لا بد أن تكون الدولة الفرنسية وأجهزتها على علم بعملية كهذه لأن القانون الفرنسي يحتم على “توتال” أن تحدد كيفية إنفاقها الأموال وخروجها من حساباتها.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
الملاحظة الثانية تتناول نقطة انطلاق الخط 23 من البر، حيث هناك نزاع بين البلدين على بعض المناطق التي يرفض لبنان حلها عبر الوساطة الأميركية في شأن الحدود البرية، ويصر على معالجتها عبر القوات الدولية العاملة في جنوب لبنان، وبالتالي يرفض ربط الاتفاق على الحدود البحرية بالاتفاق على البرية. وهذا أدى إلى تحديد نقطة انطلاق رسم الخط البحري من مسافة معينة عن اليابسة، ما يجعل مساحة صغيرة غير محددة المعالم في البحر القريب من الشاطئ تتولاها قوات الأمم المتحدة مؤقتاً، إلى أن يتم حل الإشكال الحدودي البري. كما أن لبنان رفض اعتماد البالونات العائمة في تحديد خط الحدود ودعا إلى الاكتفاء بالإحداثيات العلمية في الظروف الراهنة في انتظار الاتفاق على المنطقة المتنازع عليها على اليابسة، وامتدادها على الشاطئ والتي تحدد نقطة انطلاق الإحداثية البحرية.
كيف يتم التوقيع ومن يصادق على الاتفاق؟
وتناولت الملاحظات الأخرى مسائل لوجستية تتعلق بكيفية التوقيع على الاتفاق في الإطار التفاوضي الرسمي غير المباشر. فمن المتوقع أن يتبع إنجاز الوسيط الأميركي المسودة بعد إطلاع المسؤولين الإسرائيليين على الملاحظات اللبنانية، اجتماعاً للوفدين اللبناني والإسرائيلي في مركز قيادة القوات الدولية في بلدة الناقورة الحدودية، بحضور الوسيط الأميركي ورعاية الأمم المتحدة (مكتب ممثل الأمين العام للمنظمة الدولية). وأصر لبنان على ألا يوقع مندبوه إلى المفاوضات غير المباشرة على النص نفسه إلى جانب المندوب الإسرائيلي، بل أن يوقع كل من الوفدين على نص منفصل، حتى لا يُعتبر التوقيع المشترك على وثيقة واحدة، نوعاً من “التطبيع”.
ومثلما أثيرت في إسرائيل مسألة الإبرام النهائي للاتفاق، طرح فرقاء سياسيون في بيروت منهم حزب “الكتائب”، مطلب عرض الاتفاق على الحكومة ثم البرلمان لمعرفة ما يرتبه أمنياً ومالياً. وبينما تواجه بيروت إشكالية غياب حكومة مكتملة الصلاحيات لأن الحكومة الحالية تقوم بتصريف الأعمال، فإن أوساطاً سياسية عديدة تأمل بأن يكون وصول الاتفاق على ترسيم الحدود البحرية إلى أمتاره الأخيرة حافزاً على إنهاء الخلافات بين عون وميقاتي على تشكيل الحكومة بتسريع إنجازها كي تتمكن من إقرار الإحداثيات الجديدة للحدود البحرية تمهيداً لإرسالها إلى الأمم المتحدة لتسجيلها هناك كي تصبح رسمية. وغلب الاتجاه إلى الاكتفاء قانونياً بأن ترسل الحكومة الإحداثيات إلى الأمم المتحدة، باعتبارها تثبيتاً لخريطة سابقة أرسلتها إليها في العام 2011 بناء لقانون صدر عن البرلمان بتكليفها بتحديد الحدود البحرية، تحدد الخط 23 لحدود المنطقة الاقتصادية الخالصة العائدة للبنان، مع إضافة حق لبنان بكامل عائدات حقل قانا.
خلفية “تنازل” إسرائيل وتمسك ميقاتى
وسط السجال الإسرائيلي الداخلي لفت مقال كتبه رئيس تحرير صحيفة “هآرتس” الإسرائيلية ألوف بن، نشر ليل 3 سبتمبر بعنوان: “لبيد استسلم في الاتفاق مع لبنان وليس لنصر الله”.
وكشف الكاتب الإسرائيلي وقائع عن الاتصال الهاتفي الذي جرى بين الرئيس الأميركي جو بايدن ولبيد في 31 أغسطس (آب) الماضي، والذي صدر حوله بيانان مختلفان من واشنطن وتل أبيب. وذكر بأن العبارة التي جاءت في بيان البيت الأبيض ولم ترد في بيان رئاسة الحكومة الإسرائيلية، تنص على أن بايدن “شدد على أهمية إنهاء مفاوضات الترسيم بين لبنان وإسرائيل في الأسابيع المقبلة”. وأضاف الكاتب لإسرائيلي: “وبعبارة أخرى يمكن القول أن بايدن أبلغ لبيد بأنه ضاق ذرعاً بتأخير الاتفاق، وأرسل مبعوثه إلى المنطقة هوكشتاين لهذا السبب، لأنه يمكَّن إسرئيل من الإفادة من تطوير حقل كاريش، ولبنان من أن يطور حقل قانا”. ويضيف الكاتب الإسرائيلي: “أدرك لبيد أنه سيدفع ثمناً سياسياً باهظاً إذا صد الطلب الأميركي والتدخل الشخصي لرئيس الدولة العظمى، فحاول إبقاء هذه الرواية بعيدة عن الأضواء، في وقت تحتاج إسرائيل إلى دعم واشنطن في مواجهة الفلسطينيين في غزة وإيران على الصعيد الإقليمي”. وشرحت “هآرتس” أهمية الاتفاق بالنسبة إلى بايدن لجهة طمأنة الدول الأوروبية إلى إمكان توفير الغاز من غير روسيا.
دور قطري لاحق
سبق كل ذلك تسريبات عن دور قطري في الدفع من أجل تقدم المفاوضات، لكن بوصعب قال في حديث تلفزيوني إنه لم يكن لقطر أي دور في المفاوضات وقد يكون لها دور لاحق في التنقيب وفي نقل الغاز بعد استخراجه.
وعلمت “اندبندنت عربية” أنه بعد انسحاب شركة “نوفاتيك” الروسية من الكونسورسيوم مع “توتال” الفرنسية و “إيني” الإيطالية في التنقيب في الحقول العائدة للبنان، جرت مباحثات بعيدة من الأضواء كي تتولى شركة قطرية الاستحواذ على حصة “نوفاتيك” التي أعلن لبنان حيازتها بعد انسحاب الشركة.
وأفادت المعلومات أن دخول الشركة القطرية في الكونسورسيوم يتم في إطار مشروع تلعب قطر من خلاله دوراً في مشروع لاحق لأنبوب بين لبنان وقبرص وصولاً إلى اليونان لنقل الغاز إلى أوروبا، خصوصاً أن الجانب القطري سيتولى الاستثمار في حقل “كالبسو” في قبرص، القريب من البلوك الرقم 9 اللبناني الذي يضم حقل قانا والذي ستتولى “توتال” التنقيب فيه. كما أن هناك مشروعاً بأن تتولى قطر بناء مصنعٍ لتسييل الغاز في منطقة فاسيليكوس القبرصية، بحيث يجري تسييل الغاز المنتج من الحقول اللبنانية، تجنباً لنقله إلى مصنع تسييل الغاز في دمياط في مصر التي تشترك مع إسرائيل بأنبوب ينطلق من العقبة إلى العريش.
التعليقات