يعتقد الجانب الإسرائيلي أنَّ المكاسب الحقيقية وراء اتفاق ترسيم الحدود مع لبنان لا تتعلق بالجانب الاقتصادي فحسب، فبالنسبة إليه هذا الجانب ثانوي ويمكن تقديم تنازلات مهمة فيه.
تم الإعلان عن موافقة كلّ من الجانبين اللبناني والإسرائيلي على الصيغة النهائية لاتفاق ترسيم الحدود المائية بينهما. وعلى الرغم من كل الجدال السياسي الإسرائيلي الداخلي حول إيجابيات الاتفاق وسلبياته، ومدى صلاحية حكومة يائير لابيد الانتقالية لتوقيع مثل هذا الاتفاق الذي اعتبرته المعارضة الإسرائيلية على لسان زعيمها بنيامين نتنياهو بمنزلة “استسلام لحزب الله”، فإنَّ الوصول إلى اتفاق يطرح تساؤلات من المهم الإجابة عنها حول تأثير اتفاق ترسيم الحدود البحرية في مستقبل العلاقة بين لبنان و”دولة” الاحتلال، وتأثير ذلك في قواعد الاشتباك بين حزب الله و”إسرائيل”.
يتطلب تقديم قراءة موضوعية لاتفاق ترسيم الحدود البحرية بين لبنان و”إسرائيل” توضيح المصالح العلنية والخفية لكل طرف من وراء اتفاق ترسيم الحدود البحرية.
يعتقد الجانب الإسرائيلي أنَّ المكاسب الحقيقية من وراء اتفاق ترسيم الحدود لا تتعلق بالجانب الاقتصادي فحسب، فبالنسبة إليه هذا الجانب ثانوي ويمكن تقديم تنازلات مهمة فيه، وخصوصاً مع وفرة حقول الغاز الإسرائيلية في المياه الإقليمية والاقتصادية، وسماح الاتفاق له باستخراج الغاز من حقل “كاريش”، لكن التركيز الإسرائيلي ينصب على إمكانية تحقيق المكاسب في الجانبين الأمني والسياسي.
ترى “إسرائيل” في الجانب السياسي:
أولاً، أنَّ اتفاق ترسيم الحدود البحرية مع لبنان يمكنه أن يمنحها اعترافاً دولياً بخطّ العوامات كخط حدود دولية بينها وبين لبنان، معترف به من قبل القانون والمجتمع الدوليين، الأمر الَّذي تعتقد الحكومة الإسرائيلية أنَّه سيمثل إنجازاً تاريخياً لـ”إسرائيل”، وأن ذلك اعتراف بحدودها البحرية التي وضعتها بعد انسحابها من جنوب لبنان عام 2000، والتي لم يعترف بها لبنان ولا المجتمع الدولي.
ثانياً، يمكن أن يمثل الاتفاق بوابة جيدة لمزيد من الاتفاقات مع الدولة اللبنانية تجاه ترسيم الحدود البرية مثلاً أو أي مشاريع تعاونية إقليمية في المستقبل، ما يفسح الطريق لاتفاق “سلام” تطبيعي بين لبنان و”دولة” الاحتلال، وإنهاء حالة الصراع بين الطرفين، وخصوصاً أن بعض القوى اللبنانية لا ترى “إسرائيل” عدواً لها.
ثالثاً، موافقة الحكومة الإسرائيليّة على الاتفاق، بما فيه من تنازلات إسرائيلية، يرسل رسالة إلى كلّ من الولايات المتحدة الأميركية ودول أوروبا، وخصوصاً فرنسا، أنَّ “إسرائيل” تراعي مصالح داعميها، وتعزز اصطفافها مع الحلف الأميركي الأوروبي ضد روسيا، لما يحمله الاتفاق من تأثيرات إيجابية في مشاريع نقل الغاز من الشرق الأوسط إلى أوروبا، واستقرار سوق الطاقة. وبالتأكيد، ستطلب “إسرائيل” في مقابل ذلك دفع المزيد من الأثمان السياسية والعسكرية، وحتى الاقتصادية، المستقبلية لها.
رابعاً، “إسرائيل” تدرك أنَّ الاتفاق، بما يحمله من عائدات اقتصادية محتملة للبنان، يمكن أن يحقق مصلحة استراتيجية على المستوى اللبناني الداخلي، تتمثل بدعم موازنة الدولة اللبنانية من مصادر مالية يتحكّم فيها الأميركيون والأوروبيون بعيداً من المساعدات الإيرانية، وبالتالي يخفض النفوذ الإيراني في لبنان، ناهيك بأنَّ الإسرائيلي يعتقد أن الاتفاق سيعيد من جديد طرح مسألة احتفاظ حزب الله بسلاحه كمقاومة على طاولة الحوار داخل الساحة اللبنانية، الأمر الذي تعتبره “إسرائيل” هدفاً استراتيجياً من الطراز الأول.
في الجانب الأمني، دعمت المؤسسة العسكرية والأمنية الإسرائيلية الاتفاق، لكونها تأمل أن يتيح استخراج الغاز من حقل “قانا” اللبناني زيادة تعقيدات حسابات حزب الله في الذهاب إلى أي معركة مقبلة مع “إسرائيل”، وبالتالي تزداد قوة الردع الإسرائيلية تجاه حزب الله، إضافة إلى أنَّ الاتفاق يخفف من أعباء حماية “الجيش” الإسرائيلي لحقول ومنصات استخراج الغاز في البحر المتوسط، وخصوصاً حقل “كاريش”، الذي كان من الواضح أن تهديدات حزب الله باستهدافه جدية فعلاً، بحسب “تقديرات” الجيش الإسرائيلي.
هذا الأمر أدى دوراً مركزياً في دعم الجيش لتمرير الاتفاق، رغم كل الصعوبات السياسية الداخلية الإسرائيلية، إذ كتب العميد احتياط في “الجيش” الإسرائيلي، يوسي كوفرفاسر، أنَّ “إسرائيل” ليس لديها ردٌ جيد على تهديدات نصر الله. لذلك، تُفضل التنازل عن منطقة من البحر أعلنتها مياه إقليمية لها، أي منطقة سيادية لها، وبعض المياه الاقتصادية التي ادَّعت حيازتها الحصرية فيها، من أجل تَجنُبِ الصراع مع حزب الله والسماح بالعمل الهادئ في حقل “كاريش”.
في المقلب اللبناني، تنبع المصلحة اللبنانية من اتفاق ترسيم الحدود البحرية من الجوانب الاقتصادية في مجملها، إذ إنَّ العائدات المتوقعة من استكشاف الغاز في حقل قانا والمناطق الأخرى بعد ترسيم الحدود ستدخل عشرات مليارات الدولارات إلى الخزينة اللبنانية، في الوقت الذي يعيش الاقتصاد اللبناني حالاً من الانهيار الكبير.
ومن الجدير بالذكر أنَّ في مفاوضات ترسيم الحدود سجّل لبنان توحّد جهود كل من الدولة والمقاومة، المتمثلة بحزب الله، في إيصال رسالة إلى الإسرائيلي بأن حجم الخسائر المترتبة على عدم الوصول إلى اتفاق أكبر بكثير من حجم أي تنازلات اقتصادية وسيادية يمكن أن يتنازل عنها.
لكن، من وجهة نظرنا، أهم رسالة من وراء اتفاق ترسيم الحدود وما سبقه من تهديدات حزب الله والمفاوضات من خلال الوساطة الأميركية والتدخلات الأوروبية، والموقف الصلب للدولة اللبنانية، وتسجيلها ملاحظات على المسودة النهائية للاتفاق التي كادت تؤدي إلى انهيار الاتفاق برمته، أنَّ “إسرائيل” التي احتلت العاصمة بيروت عام 1982، واستمرت باحتلالها جنوب لبنان حتى عام 2000، لم تستطع أن تجعل نفسها القوة الوحيدة التي تملك قرار احتكار تنفيذ مشاريع الغاز في شرق حوض البحر المتوسط، بل هناك قوى أخرى متمثلة بحزب الله، ومن خلفه محور المقاومة، لن تسمح لها ولحلفائها التحكم في مقدرات المنطقة، وأن تصبح الدولة المركزية في الشرق الأوسط، كما تسعى منذ توقيع اتفاقيات “أبراهام” التطبيعية، وأن الوصول إلى اتفاق ترسيم الحدود والتفاوض تحت مظلة سلاح المقاومة وتهديدات حزب الله هو إقرار واضح من الولايات المتحدة وفرنسا بأنّ هناك قوة إقليمية ثانية في المنطقة لا يمكن تمرير أي مشروع اقتصادي إقليمي من دون أن يحسب حسابها.
اتضح من سلوك حزب الله بعد الاتفاق أنه يدرك الأهداف الإسرائيلية الخفية من وراء الاتفاق. لذلك، قال سماحة السيد حسن نصر الله: “بالنسبة إلينا في المقاومة بحرنا يمتد إلى غزة… حين تتحرّر فلسطين لن نختلف مع إخواننا الفلسطينيين على حدودنا البحرية”، الأمر الذي يوضح أن علاقة الصراع بين حزب الله و”دولة” الاحتلال ما زالت على حالها، ولم يغيرها اتفاق ترسيم الحدود.
أضف إلى ذلك موقف حزب الله في البرلمان اللبناني، الذي رفض مناقشة اتفاق ترسيم الحدود مع “إسرائيل” فيه، لكونه لا يعتبرها اتفاقية دولية، وذلك لقطع الطريق على أي اعتراف لبناني بالحدود الإسرائيلية، بل اعتبارها أمراً واقعاً يخضع لقواعد الاشتباك وموازين القوى بين الطرفين، الأمر الذي أوضحه عضو كتلة “الوفاء للمقاومة” النائب علي فيّاض، بقوله إن “التوصيف القانوني للاتفاق شبيه للتفاهمات التي حصلت عامي 1993 و1996”.
التعليقات