المراقب للمشهد الفلسطيني في لبنان يُلاحظ أن إحياء الذكريات الدامية غدا أكثر حرارة في السنوات الأخيرة، فقبل شهر تقريباً كانت ذكرى أحداث مخيم تل الزعتر، وفي هذه الأيام إحياء ذكرى مذبحة صبرا وشاتيلا. زخم المشاركات الفصائلية والشعبية، وخصوصاً على مواقع التواصل الاجتماعي، في تصاعد، لتُطرح الكثير من الأسئلة: لماذا الآن، ولماذا يجري إحياء مذابح وتجاهل أخرى، وإذا كان تذكّر الضحايا جزءاً من حقهم، فأين حقوق الأحياء الذي يتناقض أحياناً مع حضور الذاكرة الكثيف؟
لا جدال في حق الضحايا وعائلاتهم وكل المتعاطفين معهم في إبقاء الذاكرة طرية وفاعلة، لكن الدفع باتجاه حصر الشعب الفلسطيني في حالة عاطفية انفعالية لا عمل لها سوى البكاء، انشداد مقصود باتجاه الماضي، وإشغال متعمّد عن المستقبل، واعتراف غير مباشر بغياب المشروع الواثق الذي يجيب عن الأسئلة الفلسطينية الكثيرة.
إنه أشبه بتنويم اجتماعي، يقترب من التضليل، من خلال حرف سياسي متعمد عن المشاكل الواقعة باتجاه أحداث مؤلمة. استحضار الذاكرة المجبولة بالدم، يُراد منه أحياناً التغطية على أزمة الفلسطينيين في لبنان، وهو اعتراف بالعجز عن معالجتها.
فتصير صور أشلاء الأطفال الآتية من مجزرة صبرا وشاتيلا بديلاً من صورة الطفل من المخيم نفسه سمير ماهر أبو ستيتة ذي الثلاثة أعوام، الغارق عند سواحل اليونان، هرباً هو وعائلته من مخيم مأزوم اجتماعياً، ومنسي فصائلياً، ومهدد بالاندثار من ناحية هويته الفلسطينية التي كانت غالبة يوماً، وهي تتلاشى بفعل هروب الفلسطينيين الدائم من المخيم إلى المنافي البعيدة.
لا نعرف كم من الذين زاروا المقبرة الجماعية لضحايا المذبحة، ساعدتهم أقدامهم للسير عشرات أمتار أخرى، ليطلوا على آلاف الفقراء المنسيين في مخيم شاتيلا. وكم من هؤلاء الذين تذكروا حق الضحايا، تذكروا أيضاً حقوق الأحياء؟ المشهد الأول لا يحتاج إلى أكثر من آلة تصوير، وربما إكليل ورد إن اقتضت الحاجة، المكان الآخر يحتاج مشروعاً وفعلاً. السؤال المشروع: ماذا فعل كل هؤلاء من أجل عائلات الضحايا لتكون حياتهم أفضل من حياة من قُتل؟ حتى الرقم النهائي لأعداد الضحايا لم يجهدوا أنفسهم ليعرفوه بعيداً من الاستخدام الإعلامي، ليبقى الرقم تخميناً.
المقبرة نفسها، جرى إهمالها عمداً لحوالى 15 عاماً تلت المذبحة، وتحولت إلى مجمع نفايات لا يجرؤ أحد على تنظيفه. حين تأسس لقاء الفصائل العشرة عام 1993 قال لهم شفيق الحوت “هناك مجمع للنفايات في مخيم شاتيلا يرقد تحته مئات من شهداء المجزرة، أعطيكم مهلة سنة لتنظيف تلك البقعة وتحويلها إلى مزار لائق، فإن فعلتم اعتبروني جندياً في صفوفكم”. لم يفعلوا.
الأمر أبعد مما ردده هتلر على أسماع الحاج أمين الحسيني في لقاءاتهما الثلاثة “أنتم شعب عاطفي”، فهناك شعور فلسطيني عام بالهزيمة كلما ازداد عمقاً ازداد حضور الدم من الذاكرة. شهد عام 1987 إعلان الهزيمة الرسمية للفلسطينيين بإلغاء مجلس النواب اللبناني اتفاق القاهرة. وجاء اتفاق الطائف ليكرّس تلك الهزيمة. وكانت شكوى ياسر عرفات للأخضر الإبراهيمي “هذا الاتفاق لم يعترف بي، لقد طرح هذا الاتفاق موضوع الوجود السوري والإيراني والإسرائيلي وتجاهل الوجود الفلسطيني”. وحتى اعتذار منظمة التحرير عام 2008 اعتُبر اعتذار المهزومين، مع أنها من القليلين الذين حاكموا وحتى أعدموا عناصر منذ بداية الحرب الأهلية لتجاوزات طائفية وغيرها.
حتى موعد خروج منظمة التحرير الفلسطينية من بيروت في آب 1982 كان الفلسطينيون يحيون ذكريات ترتبط بما يعتبرونه مجداً، ويحمل نظرة تفاؤلية نحو المستقبل. احتفالهم الأكبر في 1/1، ذكرى انطلاقة ثورتهم الحديثة، وخلالها تُقام الاحتفالات الكبرى. يلي ذلك ذكرى يوم الأرض 30/3. حتى ذكرى النكبة في 15 أيار لم تكن مشحونة بهذا الكم من القهر. سنوات ما بعد الاجتياح الإسرائيلي عام 1982، عادت ذكرى تل الزعتر مهيمنة، وصبرا وشاتيلا، والنكبة، واستحضار لكل مذبحة وحدث مأساوي. كانت تحضر تلك الذكريات مع تراجع ملحوظ للفرح، وكل أدواته. حتى الطرائف التي يروونها هي من زمن سابق.
الذاكرة الفلسطينية في لبنان انتقائية إلى حد بعيد، بعض الانتقائية قد تكون بحكم الاضطرار، لكن بعضها يحكمه ويحرّكه الموقف السياسي أكثر مما تحرّكه العاطفة أو حق الضحايا بالحضور. فبعض المذابح أو الانتهاكات سقطت تماماً من الذاكرة، أو دفنتها إلى حين. وبعض المذابح والتهجير كتل الزعتر، يتم تذكر الضحايا ونصف وجه القاتل، والتعامي عن النصف الآخر للوجه. قد يفرض الواقع تجاهل دور الضابط رعد في الهجوم، لكن أن يتم أيضاً تجاهل الدور الأساسي لأحد الفاعلين بعملية إنقاذ المئات من أهله بذريعة التناقض السياسي فهذه سقطة أخلاقية كبيرة.
وفي صبرا وشاتيلا، هناك من يكرر قول بشير الجميل من أن مخيم صبرا سيصبح حديقتنا الوطنية للحيوانات، لكن تجاهل عمداً ولسنوات اسم الذي حاول تنفيذ المهمة، وتذكر صغار القتلة، وميز بينهم حسب خياراتهم السياسية النهائية. تسييس الذاكرة إلى هذا الحد يشكك بالدوافع الأخلاقية للمنادين بالقصاص من القتلة. لا إنكار لحق الذاكرة بأن تملك ثقوبها لتستريح من عناء التفكير، لكن الذاكرة لا يجب أن تحمل كل هذا الخبث السياسي.
نعم، لا تستطيع الذاكرة الفلسطينية في لبنان أن تكون بكامل نشاطها، وهي بهذا المعنى ذاكرة مستحيلة، فالكثير من منفذي الجرائم بحق الفلسطينيين، يتولون مناصب في دولة أصبحت الميليشيات التي خاضت الحرب الأهلية جزءاً أساسياً من بنيتها، ومصير المتصارعين لم يكن شبيهاً بمصير أشباههم في بلدان أخرى كيوغسلافيا أو جنوب أفريقيا أو رواندا، حتى يسهل استنطاق الذاكرة بحرية تامّة، بعيدة عن لغة ثأرية. فتعافي لبنان من ماضيه، وتحرير ذاكرته، وجزء من ذلك الإفراج عن تحقيق المجزرة، شرط أساسي لذاكرة فلسطينية عفية.
خلاصة القول إن حق الضحايا في الحضور لا يلغي حق الأحياء بإنقاذهم من مذبحة مستمرة لكن من دون دم، من خلال الحرمان غير المسبوق بحق الفلسطينيين، والذي يأخذ أبعاداً عدة. وإن تحويل مناسبات المذابح إلى بكائيات يزيد البؤس، من دون أن ينجز الكثير في طريق النضال لتحقيق العدالة للضحايا، ومن أكبر الطعنات التي يمكن أن توجه للضحايا وعائلاتهم، استثمار ذلك الدم في سوق السياسة الرخيص.
التعليقات