قبل أيّام قليلة اكتشفت المديريّة العامّة للأمن العام تورّط عسكريّ في تسهيل حصول مواطنين على جوازات سفر لقاء مبالغ ماليّة تصل إلى 500 دولار. وبعد “انكشافه” توارى العسكريّ عن الأنظار، ثمّ جرى توقيفه لاحقاً.
ليست المرّة الأولى التي تضبط المديريّة حبل التواطؤ بين مدنيّين سماسرة وعسكريّين يسهّلون الحصول على جوازات السفر لطالبيها، وتوقفهم ثمّ تحيلهم إلى المجلس التأديبي. لكنّ هذا التلاعب والاحتيال استمرّا حتى بعد إصدار المدير العامّ للأمن العام اللواء عباس إبراهيم قراراً بإحالة كلّ طلبات تغيير المواعيد على المنصّة إلى مكتب المدير العامّ للاطّلاع عليها شخصيّاً والتحقّق منها.
في هذا السياق يؤكّد اللواء عباس إبراهيم لـ “أساس” اتّخاذه قراراً بملاحقة الراشي والمرتشي معاً في محاولة للحدّ من محاولات الاحتيال للحصول على جواز سفر لقاء مبالغ ماليّة.
هو واقعٌ مستجدٌّ وغير مألوف في مسار استحصال اللبناني على حقّ بديهي له في حيازة جواز سفر أو تجديده. واقعٌ فرضته أزمة شحّ جوازات السفر التي ما تزال قائمة حتى إشعار آخر، ومن ترجماتها غير المنطقية المدى الزمني الفاصل بين تاريخ تقديم الطلب على المنصّة وتحديد تاريخ إجراء المعاملات الذي بات يتجاوز أكثر من عام.
لكنّ الطلبات الطارئة للاستحصال على جوازات سفر ما تزال ممكنة من خلال مكتب المدير العامّ، حيث يُصار إلى طلب تقديم موعد الحصول على الباسبور على المنصّة، وبعد التحقّق من الأسباب الموجبة لتسليمه ضمن فترة زمنية قصيرة يتمّ تقديم الموعد.
وفي انعكاس مستمرّ للأزمة بدأت مديريّة الأمن العامّ أخيراً بتسليم جوازات سفر من النسخة القديمة موديل 2003، التي توقّفت المديرية عن استخدامها منذ العام 2016، وهو ما أثار “نقزة” لدى اللبنانيين من مدى ملاءمتها للشروط الدولية واحتمالات عدم قبولها في مطارات دول العالم.
يقول إبراهيم لـ”أساس” إنّ “المديريّة لجأت منذ فترة إلى هذا الإجراء بسبب نفاد مخزون الباسبورات البيومترية لديها، إذ لم يبقَ إلا عدد قليل منها لا يلبّي حجم الطلب عليها”.
150 ألف.. في تشرين
يؤكّد المدير العام أنّ “الدفعة الأولى من الباسبورات البيومترية تصل في أوائل تشرين الثاني ويصل عددها إلى 150 ألف جواز سفر بيومتري من أصل 400 ألف جواز كان يُفترض أن تشكّل الدفعة الأولى”.
بعد اجتياز المديرية العوائق الداخلية لجهة رصد الاعتمادات الماليّة المطلوبة، تبيّن، وفق إبراهيم، وجود مشكلة خارجية في أوروبا تؤخّر تسليم جوازات السفر داخل هذه الدول نفسها، وهو ما انعكس بطبيعة الحال تأخيراً في تسليم الكميّات المتّفق عليها للدول التي تطلبها.
حسماً لأيّ جدل يؤكّد إبراهيم أنّ “الباسبورات نسخة 2003 التي يتمّ منحها لخمس سنوات كحدّ أقصى معترف بها على المستوى الدولي من قبل المنظمة الدولية للطيران المدني ICAO، وبالتالي لا إشكاليّة في اعتمادها في مطارات العالم. وطبعاً لم يكن ممكناً توزيعها مجدّداً على اللبنانيين قبل الحصول على الموافقة الدولية عليها”، وإلّا فسيكون الأمر بمنزلة كارثة. ويضيف: “ستُعتمد جوازات السفر القديمة إلى حين تسلّم جوازات السفر البيومترية أوائل تشرين الثاني”.
تؤكّد المديرية أن “لا رجوع عن قرار استخدام المنصّة حتى بعد وصول كلّ الدفعات المطلوبة من جوازات السفر البيومترية”، مشيرة إلى أنّ هذا “الأمر يوفّر على طالب جواز السفر مشقّة الانتقال إلى مراكز الأمن العامّ واحتمال عدم بتّ طلبه لنقص في الأوراق أو أيّ سبب آخر، وتقلّل مواعيد المنصّة الازدحام في المراكز وتنظّم الاستحصال على الباسبور”.
“صيرفة” و”الضمانات”
دفعة الـ150 ألف باسبور بيومتري التي ستصل أوائل تشرين الثاني هي جزء من كوتا كان يُفترض أن تكون مليوناً و100 ألف باسبور كافية لعام واحد. لكنّ الكميّة تقلّصت إلى أقلّ من مليون بعدما انخفض المبلغ المرصود من 14 إلى 13 مليون دولار. إذ بين إقرار الاعتماد في مجلس النواب ثمّ فتح الاعتماد لتحويل المبلغ كان سعر “دولار صيرفة” الذي حُوّل على أساسه المبلغ قد ارتفع، فأدّى إلى انخفاض قيمة المبلغ المُحوَّل قياساً إلى “الدولار الفريش”، بسبب الفارق بين “الدولارين”. ثمّ طلبت الشركة الفرنسية المصنّعة “ضمانات” باعتماد ماليّ معزّز “لأنّ لبنان بلد مشكوك في قدرته على السداد”.
باختصار، لا عودة قريباً إلى الوضع الطبيعي الذي يسمح بالحصول على الباسبور تلقائيّاً، والأزمة قد تتكرّر في أيّ وقت.
فعلى الرغم من الضغط الكبير الذي مارسه اللواء إبراهيم منذ تموز 2021 لتوفير مستلزمات “تحرير” المبلغ الماليّ المطلوب تحويله للشركة الفرنسية، ورغم التحذير المتكرّر من نفاد المخزون، أصرّت الحكومة، بأدائها غير المسؤول، على إدخال اللبنانيين في دوّامة انتظار جواز سفر ضاع على مدى أشهر بين دهاليز الحكومة ومصرف لبنان ووزارة المال، فيما الاستحصال عليه ما يزال رهينة إجراءات غير اعتيادية.
هكذا أبدعت السلطة السياسية في تكريس واقع “اعتقال شعب” بكامله ومنعه من السفر بعد إفقاره ونهبه وإذلاله و”حرقه” بفواتير الكهرباء والسوبرماركت والبنزين والطبابة والتعليم والأدوية. وحين يقرّر أن “يُنفّس” عن نفسه في رحلة سياحية إلى الخارج، أو أن يهاجر طلباً للعلم أو العمل أو أن “يهجّ” طلباً للهجرة واللجوء، تُلزمه هذه الحكومة بالبقاء داخل منزله الذي تنقصه الكهرباء والمكيّفات والمياه.
في الواقع أخذت المديريّة العامّة للأمن العام بصدرها “فضيحة حكومية” عكست غباءً نافراً لدى السلطة وقصوراً عن إدراك حتى مصلحتها في تسهيل توفير الاعتمادات لجوازات سفر تدرّ عليها المليارات، إذ إنّ جواز السفر يكلّف حوالي 12 دولاراً فيما المواطن يدفع قيمته اليوم مليوناً و200 ألف ليرة بعد تعديل مجلس الوزراء التسعيرة، وهذا الفارق يذهب مباشرة إلى الماليّة.
التعليقات