إبراهيم الملا (الشارقة)
يترجم حضور البحر في تجليات الثقافة الإماراتية، ظواهر تعبيرية متنوعة الأشكال ومتعددة الأنماط، وهو حضور يتأكد تأثيره وانعكاسه ضمن مدونات التاريخ المحلي، وأرشيفات التراث الشعبي، وبالتالي هو حضور لصيق بالهوية والخصوصية البيئية، بانتمائها العميق لمشهدية البحر وما يتخلله من انشغالات محسوسة عززتها المهن اليومية والممارسات الاقتصادية.
تجسد هذا الحضور في الأسفار الروحية المتحقّقة إبداعيا من خلال القصص الشعبية النابعة من ارتباط أهل الساحل بتحولات مياه الخليج على مرّ الأزمنة، فهي تحولات صنعت نسيج حياة ثقافية مفعمة بالإلهامات المنتجة لفنون الشعر والروايات الشفهية والأخرى المدوّنة، والتي صاغت حالية تفاعلية مدهشة ساهم انفتاح السواحل وهدير الأمواج وإغواء الأزرق الكبير في ولادة تراث ثقافي هائل جمع بتراكمه الكمّي والمعرفي بين المرئي والمتخيل وبين الظاهر والباطن وبين الواضح والمستتر، داخل معجم البحر ذاته، المنطوي على الكثير من الدلالات والاصطلاحات والمسميات المحلية الموشكة على الانقراض، وبالتالي وجب الانتباه لهذا المعجم المشتبك بذاكرة المكان وبمكابدة الإنسان حتى لا ينفرط عقده، ولا تنفكّ أواصره، ولا تتلاشى أسسه المساهمة في تأصيل مكوّنات الثقافة المحلية، بكل إشراقاتها العتيقة وبكل بصماتها وتغذيتها العكسية المتمثّلة في الحنين، ومقاومة النسيان والإهمال والتخلّي.
وفي هذا السياق فإن إصدار كتاب مثل: «البحر.. في تراث دولة الإمارات العربية المتحدة»، يعد إصدارا غاية في الأهمية من ناحية التوقيت والمحتوى، كما يعد نتاجا زاهيا لجهود مقدّرة تسعى لإعادة ميراث البحر الغني إلى المقام الذي يستحقه، وإلى المستوى الذي يواكب الرغبة المتعطشة في إحياء تقاليد وطقوس الغاصة والبحارة وربابنة المياه في حلّهم وترحالهم، وفي كدّهم وانشغالهم من أجل تثبيت ركائز الموروث الشعبي المنتمي بكل جماله وجلاله إلى البيئة الساحلية وما أنتجته من معارف وظواهر سيسيولوجية مهمة لا بد من حفظها من الاضمحلال والاندثار.
كتاب «البحر في تراث دولة الإمارات» من إعداد وتقديم الباحثة شمسة محمد العبد الظاهري، وهو ضمن منشورات السلسلة التراثية الثقافية بمركز زايد للدراسات والبحوث، المعنيّ بتشجيع الباحثين على الاهتمام بنشر الدراسات العلمية الجادة، من أجل نشر وتوثيق كل ما يتعلق بموضوعات ومصطلحات التراث بشكل عام، وتراث وتاريخ ونشأة دولة الإمارات بشكل خاص، والكشف عن مقومات كيان الدولة التراثي والحضاري، وهي دراسات موجهة للمجتمع المحلي بكافة أطيافه، وللمهتمين والدارسين والباحثين المختصين في التراث الثقافي، لتكون مرجعا علميا موثّقا للراغبين في المعرفة والاطلاع على القضايا التاريخية والاجتماعية والجغرافية والبيئية والتراثية برصيدها الفلكلوري والأنثروبولوجي الضخم والمتنوع.
وتشير الباحثة شمسة الظاهري في مقدمة الكتاب إلى الصورة التفاعلية لبحر الخليج بسواحله وأعماقه وغموضه، وكيف أنه ساهم في إحداث الروح والمزاج البحريين لأهل الإمارات قديما، مضيفة أن رجال البحر امتلكوا شبكة واسعة من الحصاد المثمر المرتبط بعصر ما قبل اكتشاف النفط، ما شكل جزءا مهما من تراث الدولة وذاكرتها الشعبية، وتستطرد الظاهري: «العلاقة بين البحر والإنسان في دولة الإمارات لا تشبه غيرها، فهي علاقة تبادلية قديمة قدم الإنسان ذاته، حيث ساهم صيد الأسماك مثلا في تلبية الاحتياجات المعيشية للناس، فضلا عن توفير بعض الفائض للتجارة»، مستدركة: «غير أن الغوص من أجل استخراج اللؤلؤ كان الركيزة الأهم للأهالي من الناحية الاقتصادية وتحقيق الاستقرار والتفاعل الثقافي مع الآخرين، وقد استطاعوا من خلال تجارة اللؤلؤ إقامة علاقات متينة مع البلدان الأخرى، ولكنها تعمّقت أكثر عندما أبحروا إلى شرق آسيا وأفريقيا، حيث نقلوا ثقافتهم وحضارتهم، مؤثرين ومتأثرين بالثقافات المغايرة».
وتذكر الظاهري أن البحر شكّل لسكان الإمارات تراثيا غنيا متنوّع الجوانب والألوان، وفيه العديد من الدلالات والمعاني، فهو يشمل رحلات الماء وما تحمله من وقائع وحكايات وسرديات وأهازيج وأمثال وألغاز، ومصطلحات بحرية شكّلت معجما لغويا وشفهيا ثريّا، ولكنه، وفقا للظاهري، بدأ يتراجع أمام التغيرات الاجتماعية والثقافية والاقتصادية في حياتنا المعاصرة.
قيمة أثيرة
يتناول الكتاب موضوعات مختلفة كطرق الصيد القديمة التي زاولها أبناء الإمارات، وأهم المغاصات البحرية، وطرائق البحث عن اللؤلؤ وتجارته، وكذلك أنواع السفن والمراكب وطريقة صناعتها وتصنيفاتها حسب الحاجة إليها، سواء ما يتعلق بمراكب صيد الأسماك، أو سفن الغوص، أو سفن الرحلات والتجارة بين موانئ الخليج القريبة أو الموانئ الأخرى البعيدة.
ويتطرق الكتاب للحديث عن البحر في الأدب الشعبي، وعن ذكريات وقصص أبناء الإمارات مع البحر، كما يضم مجموعة من القصائد النبطية والحكايات المنبثقة من التراث البحري الإماراتي، المحتوي على الكثير من الأمثال والمواويل والأشعار المحتفية بأصالتها وجنوحها للتوثيق العفوي، في زمن سحيق افتقر للتدوين، ولكن آثار هذا الأدب الشعبي المرهف والجامح في الوقت ذاته، ظلت حيّة وسامقة في ذاكرة الرواة المحليين، المساهمين بقوة في الحفاظ على القيمة المحلية الأثيرة لوهج الماضي وسحر البحر وبريق السواحل إلى يومنا هذا.
التعليقات