المصدر: النهار
لم ينجح منسوب المياه الذي ارتفع أمس جرّاء هطول المطر في إخفاء إهمال الدولة بوزاراتها المتعاقبة، ولم تجرف السيول فسادها وتقاعس البلديات عن القيام بواجباتها، أقلّه قبل الشتوة الأولى. جفّت المياه بعد ليلة قاسية، حيث أمطرت بغزارة ودفع ثمنها عسكريّ متقاعد خدم دولته سنين طويلة فكرّمته بقتله “غرقاً”.
لم تسعفه قدماه المشلولتان على المثابرة أكثر والتمسّك لوقت أطول، بعد أن جرفت السيول والأمطار سيارة ابنه إلى منحدر في منطقة معامل زوق مصبح كسروان، وهي على بعد كيلومتر من مكان سقوطه. كانت ليلة قاسية على اللبنانيين الذين علقوا في سياراتهم، تحاصرهم المياه التي فضحت تقصير المسؤولين في حقهم.
لكن في الأمس عاد الجميع إلى منازلهم باستثناء ر.م. (80 عاماً) الذي كتبت دولته نهايته بإهمالها، الجميع نام دافئاً ما عدا عائلته ووحدة الإنقاذ البحريّ في الدفاع المدنيّ، وفريق الجيش الذين بذلوا قصارى جهدهم لانقاذ العسكري المتقاعد المفقود.
لم ترحم السيول والأمطار الغزيرة جسده المثقل بفعل السنين، ابنه الذي خرج من السيارة وبدأ بإخراج عائلته تباعاً لم يقوَ طويلاً على الإمساك بوالده. فبعد أن أنقذ ابنه وزوجته، نجح في إخراج والده لكنّه لم يصمد كثيراً قبل أن يفلت من يده وتجرفه الأمطار.
مشى الابن ممسكاً بوالده نحو 20 متراً في المياه قبل أن يفلت منه، كثافة الأمطار زادت من صعوبة المهمّة. فُقد الرجل ولم تنجح فرق الإنقاذ في العثور عليه في الليلة ذاتها. ساعات طويلة قضتها وحدة الإنقاذ البحريّ مع الجيش في البحث عنه، جفّت المياه اليوم في مجاري النهر، فكشفت عن جثته التي عُثر عليها مطمورة بالردم والأتربة الموحلة.
هذا الوحل الذي دعس عليه العسكري في خدمته كثيراً دفاعاً عن وطنه، والتراب الذي تمرمغ فيه في حياته، كان آخر ما شاهده في لحظاته الأخيرة. دولة فاشلة قتلت مواطنها، جريمة لن يُحاسب عليها أحد وستبقى حسرة في قلب عائلته، في حين ستواصل الوزارات بمسؤوليها إلقاء اللوم على الآخرين، لأنّ الجميع سيتبرّأ من دم هذا الثمانينيّ!
أفكر في ابنه الذي يغرق في دموعه بعد أن غرقت سيارته في السيول، أفكر بعائلته التي وجدت نفسها في حداد مفاجئ لأن لا صيانة أو تأهيل لأيّ طريق أو أوتوستراد قبل الشتاء. أفكر كيف يمكن أن ينام المسؤولون وفي رقابهم أرواح أُرهقت نتيجة الإهمال والفساد طوال السنوات الماضية؟ ولكن ما يحزن أكثر أنّه صرفت آلاف الدولارات لصيانة الطرقات وتأهيلها، وقد أكّد أسعد ذبيان المدير التنفيذيّ لمبادرة غربال أنّ قيمة عقود الصرف الصحّي الذي أجراها مجلس الإنماء والإعمار خلال 20 عاماً (2001-2020) تصل إلى 763.3 مليون دولار. كما أنّ قيمة القروض والمنح التي خُصّصت لمشاريع الصرف الصحّي، تصل إلى 1.5 مليار دولار خلال 30 عاماً (1990-2021)”.
إنّ تقاذف المسؤوليات بين الوزراء وغياب أيّ خطّة شاملة وآمنة تُعيدنا إلى الدائرة نفسها، إلى البهدلة نفسها وإلى الوجع نفسه.
يتحدث رئيس وحدة الإنقاذ البحري في الدفاع المدني سمير يزبك لـ”النهار” أنّ “كمية الأمطار التي تساقطت أمس كانت غزيرة وقوية، ولقد ارتفع منسوب المياه نحو مترين على عرض 20 مترًا، ما أدّى الى انحدار السيارة التي كانت تضمّ 4 أشخاص. نجح الابن في إنقاذ نفسه ومن ثمّ إخراج ابنه وزوجته، وووالده المقعد قبل أن يفقده من جديد.”
ويؤكّد يزبك أنّ “الرجل الثمانينيّ توفّي غرقاً نتيجة عدم قدرته على السباحة، ولقد بقيت فرقنا مع الجيش تواصل بحثها طوال الليل، لكنّ المياه حالت دون إيجاده بسرعة. ولقد عثرنا عليه عند الساعة العاشرة صباحاً وكان مطموراً بالردم والأتربة”، مشيراً إلى أنّ منسوب المياه كان مرتفعاً وكثافة المياه الغزيزة أدّت إلى هذه الكارثة، ولم تساعد جغرافية المنطقة باعتبارها منحدرًا من جعيتا حتّى عين الريحانة فالزوق، إلى التخفيف من كثافة الأمطار وتجمّعها.”
وفي النهاية، دفع العسكريّ المتقاعد ثمن إهمال وتقصير الدولة حياته، والخوف الأكبر من أن تتكرّر هذه المأساة مع كلّ شتوة جديدة من دون أن يُحاسب أحد!
التعليقات