من المفارقات، أنّ الرئيس ميشال عون وفي الأيام الأخيرة لعهده، يضع الشعب اللبناني أمام السؤال التالي: هل لبنان هو من يودّع العهد العوني أم أن هذا العهد ومعه كل اللبنانيين هم من يودّعون هذا الكيان، الذي قام في العام 1920 وأُطلق عليه اسم لبنان الكبير؟
ثمّة من كتب مرة أن المستقبل لم يعد كما كان. نعم، إن تصوراتنا عن المستقبل تصوغ حاضرنا إلى حد كبير… فأي مستقبل ترك هذا العهد أمامنا وقد صاغ حاضرنا بكم هائل من النكبات؟ من يجرؤ على استشراف المستقبل أصلاً عطفاً على التحديق في عين الهاوية؟ ربما من الأجدى القول وقد باغتنا هذا العهد بما فاق التصورات من ضروب المهانة والذل والخراب، ربما من الأجدى القول إن الهاوية هي من تحدّق بنا، هي من تختلس النظر علينا منذ البدايات الأولى لهذا العهد.
قد لا يكون من رقائق الأمور أن يكون المرء متشائماً بعامة، إنما ومع وصول السنوات الست من العهد العوني إلى خواتيمها، من السذاجة في مكان أن يكون الإنسان متفائلاً بالحد الأدنى من التفاؤل، حيال التركة العونية وعقابيل هذه التركة على لبنان في التالي من الأيام والشهور والسنين.
في الكتاب الذي وضعه الصحافي سركيس نعوم بعنون”ميشال عون حلم أو وهم”، يورد الملاحظة الآتية عن هذا الرجل: لكل مشكلة تعرضها عليه حل فوري وعنده أجوبة عن كل شيء. لعل التجسيد الواقعي لعبارة نعوم تلك هو جواب عون على أسئلة الصحافيين له في قصر بعبدا لدى سؤالهم إياه إلى أين نحن ذاهبون… قال الجنرال وبلا مواربة: إلى جهنم!!
بالنسبة إليّ كل إحالة إلى معجم السوداوية، بدءاً من كلمة جهنم وصولاً لكل الكلمات التي يحويها هذا المعجم تليق بعهد ميشال عون بيد أن أبرز كلمة لعلها تليق بهذا العهد هي كلمة “نعوة”. فمنذ أيامه الأولى في سدة الرئاسة لم يتجاوز سلوك هذا الرجل وسلوك ناسه في الوزارات والإدارات عن أن يكون “نعوة”… وهي “نعوة” قد مُهّد لها عبر الحليف الأول لعون أي حزب الله من خلال فرض هذا الحزب الفراغ الرئاسي ما لم يُصار إلى انتخاب حليفه ميشال عون… رجل اتفاق مار مخايل، الإتفاق الذي حوّل المنصب السياسي الأبرز للمسيحيين في هذه البقعة من العالم إلى مطية لمشاريع إيران بوجه العالم العربي والغربي على حد سواء.. ثمة انقلاب في السلوك العوني عطفاً على تفاهمه مع هذا الحزب على كل السردية المسيحية بشكل عام والمارونية بشكل خاص بكل تفرعات هذه السردية وتنوعاتها منذ مئات السنين لليوم، وهو انقلاب باشره عون عبر هذا الاتفاق، لنكون مع أيامه الأخيرة إزاء علامة استفهام ضخمة تمتد على طول ال 10452 كيلو متر مربّع، لا أقصد بهذا الرقم استدعاء ذكرى بشير الجميّل، فالكلام هنا عن ميشال عون.
هو عهد بمثابة “نعوة” خُطّتْ بحروف هوشة الصهر على السلطة تحت لافتة حقوق المسيحيين!!! ومن المفارقات أن مسيحيي العهد العوني شأنهم في ذلك شأن بقية اللبنانيين، يتهافتون على أبواب السفارات وقد بلغ اليأس مداه.
من النافل القول إن هذا الجنرال الطموح، لا يتحمّل وحيداً كل هذه المآلات البخسة التي وصل إليها بلدنا، بيد أن ادعاءات الرجل التاريخية لا تترك مجالاً للتسامح مع هذا العهد، مع هذه الـ”نعوة” التي امتدتْ لستة سنوات.
لا يمكن التسكّع بخفة حيال مراكمة القول بالسيادة والاستقلال وانتظام عمل المؤسسات وفصل السلطات و”يا شعب لبنان العظيم” والتي يحفل بها السجل المكتوب والمُذاع والمُتلفز لعون، منذ تعيينه قائداً للجيش في حزيران 1984 وصولاً إلى اليوم… أما شعار “ما خَلّوْنا” والذي لازم التيار العوني عبر جبران باسيل فهو أقرب إلى الإستجداء، إلى الشفقة على الذات وإلى تأمّل رجل لتحلل جثته عبر مرآة.
في الفصل الذي خصّ به ميشال عون في كتابه “موارنة من لبنان” والصادر بطبعته الأولى في العام 1988، يقول حازم صاغية عن عون: عيناه صغيرتان وفيهما شيء من حنان غامض… قد لا تكون كلمة “حنان” في هذه العبارة إلا من قبيل الفضفضة التعبيرية ولا سيما أن الحنان ها هنا قد اقترن بالغموض ولا بأس بهذا الأمر…
في رائعته الروائية “متاهة الأرواح” يقول الإسباني كارلوس زافون عن أحد الأشخاص: “وجهه قادر على احتكار كل الجوائز في مسابقة أفضل حفّار قبور”. زافون عبر عبارته الرائعة لا يصف ميشال عون، وإن كان ثمة ما يشي في هذه العبارة أن الروائي الإسباني أكثر معايشة للجنرال وتاريخه من جملة المحللين اللبنانيين… ولا بأس باستدعاء أهل الأدب وناسه، فأهل الأدب هم الأسبر غوراً حيال استكشاف النفوس ولا سيما نفوس أهل الطموح من الجنرالات وما شاكل من ذوي الكلمات الضخمة، الذين غالباً ما يشكلون حالات متطرفة من الإنبعاث والنهوض لدى جماهيرهم المحتشدة هنا وهناك…
في روايته “ليلة لشبونة” ولدى تطرقه إلى حالات الإنبعاث الجماهيري والذي يشبه في حالتنا اللبنانية استعادة الحقوق يقول الروائي الألماني إريش ماريا ريمارك: “إن مرحلة الإنبعاث الجماهيري هي كالحجر الذي يبعد عن مكانه ليظهر ما تحته من الحشرات الزاحفة، هذه الحشرات التي تغطي ابتذالها بالكلمات”. … وربما ذلك الإبتذال قد بلغ ذروته عبر تلك المقابلة الشهيرة على محطة CNN مع الوجه الآخر للعهد وصولاً للحظة كتابة هذه الكلمات.
ثمة مثل إيطالي يقول أن الإبرة التي لا تخيط تصدأ. مع الأيام الأخيرة لعون يليق بي كمواطن لبناني عادي القول: حبذا لو تآلكني الصدأ قبل أن أشاهد إبرة العهد المسننة تعمل بثوب وطني الثقوب وصولاً لتمزيق هذا الثوب وانحلاله وتلاشيه.
لا أخفي حقيقة أني لست من القائلين بمسامحة من يسيء أو بنسيان الإساءات، إذ التسامح عندئذ والنسيان هما بمثابة كائن ضعيف مبتور الأصابع وزائغ النظرات. كمواطن لبناني لا يريد من العالم شيئاً ما خلا الأمن وحفظ الكرامة وعدم العوز، لقد أساء هذا العهد إليّ كثيراً، ولا أخال أن ثمة من لم تُساء كرامته من أبناء هذا الوطن خلال هذا العهد.
… يخبرنا تاريخ الإمبراطورية الرومانية أن أحد حكام الأقاليم لم يكن محبوباً من قِبل رعيته بسبب ما اعتور زمنه من زبائنية ومحاولات توريث وعدم تحمّل المسؤوليات بما يتطابق مع المقام، ولما مات وكان ذلك سنة 444، ألقى أحد الوجهاء الأفاضل الكلمة التالية خلال مراسم تشييعه: “وأخيراً مات هذا الشقي، إن وفاته تملأ نفوس الناس فرحاً وأرواح الموتى غماً، سيضيقون هؤلاء الأخيرين ذرعاً به وسيحاولون إعادته إلينا… ضعوا إذن حجراً ثقيلاً على قبره كي لا نتعرّض إلى خطر الإضطرار إلى رؤيته مجدداً، لا نريد أن نراه حتى كشبح”.
التعليقات