بيروت- بعدما بلغ لبنان عتبة إنجاز ترسيم الحدود البحرية جنوبا مع إسرائيل، حرك رئيس الجمهورية اللبناني ميشال عون، في الأيام الأخيرة من عهده الذي ينتهي في 31 أكتوبر/تشرين الأول، ملف ترسيم الحدود البحرية مع سوريا، ثم اصطدم بعقبات كثيرة جاء أول مفاعيلها من خلال إرجاء الجانب السوري موعد زيارة الوفد اللبناني إلى دمشق، والتي كانت مقررة -وفق السلطات اللبنانية- اليوم الأربعاء لبحث الملف.
وأثار القرار السوري إرجاء زيارة الوفد اللبناني برئاسة إلياس بو صعب نائب رئيس مجلس النواب سجالا ببيروت، أعقبه توضيح من السفير السوري لدى لبنان علي عبد الكريم علي الذي قال عقب زيارته الرئيس عون “إن الزيارة تأجلت ولم تلغ، وهناك لبس حول تشكيل وفد لبناني إلى سوريا وكيفية تبلّغ الخارجية السورية بطلب الزيارة بوقت متأخر الأحد، ومن ثم إعلان السلطات اللبنانية عن موعد الزيارة قبل مناقشته مع سوريا”.
ويرى مراقبون أن مسألة ترسيم الحدود بين لبنان وسوريا تحمل أبعادا تاريخية ودبلوماسية وسياسية واقتصادية، وتعود إلى ما قبل عهد الاستقلال عن الانتداب الفرنسي في البلدين اللذين تربطهما علاقة حافلة بالتعقيد والصراع، حتى إن البعض يتهم النظام السوري بالتعاطي مع لبنان كمقاطعة تابعة له.
بينما يجد آخرون أن أولوية سوريا قبل البت بأي ملف حساس كترسيم الحدود تكمن في دفع بيروت إلى تصحيح علاقاتها مع دمشق، وتجاوز حقبة المقاطعة وما يعدّه النظام السوري خضوع لبنان للضغوط الغربية.
ما القصة التاريخية للحدود بين لبنان وسوريا؟
تعود جذور التداخل الحدودي برا وبحرا بين لبنان وسوريا إلى ما قبل عهد الاستقلال عن الانتداب الفرنسي في البلدين (1920-1943)، حين كانا يخضعان لحكم المفوض السامي الفرنسي، وكانا منطقة انتدابية واحدة لفرنسا.
وهنا يقول وسام اللحام الأستاذ اللبناني المتخصص بالقانون الدستوري وتاريخ الفكر السياسي -للجزيرة نت- إن فرنسا لم تحدد النقاط التي تبدأ منها وتنتهي حدود كل من لبنان وسوريا، وكانت سوريا تعد لبنان جزءا منها، مقابل وحدة جمركية ونقدية واقتصادية شاملة فتحت الحدود بينهما.
وبعد الاستقلال -حسب لحام- لم يأخذ أي طرف مبادرة جدية لترسيم الحدود بحرا وبرا، علما أن الحدود محددة بالدستورين اللبناني والسوري، وغير مرسمة على الأرض.
أما قضية الخلاف حول ترسيم الحدود البحرية من الجهة الشمالية اللبنانية فتعود إلى 2011، أي تاريخ الخلاف بين لبنان ودولة الاحتلال الإسرائيلي، حين أصدرت الحكومة اللبنانية في عهد رئيسها الأسبق فؤاد السنيورة المرسوم رقم 6433، ورسّم من جانبه الحدود البحرية الجنوبية مع إسرائيل والشمالية مع سوريا والغربية مع قبرص، فاصطدم أيضا بالترسيم الذي حددته سلطات النظام السوري.
ويوضح الأكاديمي اللبناني والخبير بالقانون الدولي رزق زغيب أن السفير السوري السابق لدى الأمم المتحدة بشار الجعفري أرسل رفضا للإحداثيات الموجودة بالمرسوم اللبناني، وعدّها غير ملزمة للجمهورية العربية السورية.
ولبنان -وفق زغيب- تقيد بمبدأ الخط الوسطي الذي تنص عليه معاهدة قانون البحار في عام 1982، أما سوريا وهي ليست عضوا بالاتفاقية فاعتمدت خطا مستقيما يجعل ما بين 750 كيلومترا مربعا وألف كيلومتر مربع متداخلة بحرا مع لبنان، فصارت منطقة بحرية متنازعا عليها. ويُذكّر الأكاديمي بأن لبنان في 2017 حدد مجاله البحري والمنطقة الاقتصادية الخالصة بـ10 “بلوكات” وأن “البلوكين” الشماليين 1 و2 يقعان مع الحدود السورية البحرية وجزء منهما يتداخل مع البلوك رقم 1 السوري ويصيب المنطقة التي تتجاوز 750 كيلومترا مربعا.
وما زاد الأمر تعقيدا تحت وطأة الحرب السورية وعقوبات قانون قيصر الأميركي هو دخول العنصر الروسي، إذ وقعت دمشق في مارس/آذار 2021 عقدا مع شركة “كابيتال” الروسية للقيام بالمسح والتنقيب عن النفط في البلوك رقم 1، أما الجانب اللبناني فيرى وفق إحداثياته أن عمليات التنقيب ستجري في جزء من منطقة بحرية تابعة له. ويعتقد كثيرون أنها منطقة غنية بالثروة النفطية والغازية، وذلك ما يفاقم النزاع عليها، داخليا وإقليميا، مع الإشارة هنا إلى أن روسيا نفسها وقعت عبر شركة “روسنفت” الروسية عقدا مع الحكومة اللبنانية في 2019 لتشغيل مصفاة النفط في البداوي شمالي لبنان.
لكن أزمة الترسيم الحدودي بين لبنان وسوريا تتجاوز البحر إلى البر، ويلفت زغيب إلى أن هناك العديد من المناطق غير المرسمة بينهما، على طول سلسلة جبال لبنان الشرقية، وصولا إلى مزارع شبعا التي تطل على هضبة الجولان المحتلة من إسرائيل. وحسب قرار مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة رقم 1701 الصادر في 2006 لحل النزاع اللبناني الإسرائيلي، طالب الأمين العام للأمم المتحدة بإيجاد حلول لقضية مزارع شبعا، وكلف خبير خطوط لترسيم حدودها مع هضبة الجولان السورية، لكن “سوريا رفضت الترسيم البري فيها تحت وطأة الاحتلال الإسرائيلي، وبدا لاحقا أن جميع الأطراف لا تبدي حماسة لترسيم هذه المنطقة”، حسب الأكاديمي.
ويضيف أن “هذا الخلاف يمكن حله إما دبلوماسيا عبر التفاوض أو عبر اللجوء إلى محكم قضائي”.
خلفيات التوقيت
سياسيا، يتساءل كثيرون عن أسباب إثارة ملف ترسيم الحدود البحرية في الأيام الأخيرة من عهد الرئيس عون، ويرى الكاتب والمحلل السياسي حسين أيوب أنه من حيث التوقيت، لو لم ينجز ملف الترسيم مع إسرائيل لما استطاع عون طرح الترسيم لا مع سوريا ولا مع قبرص.
ويقول للجزيرة نت إن عون كان بمقدوره ترك الملف بعهدة خلفه، “لكنه كمن أراد تعويض ما فات عهده طوال 6 سنوات في آخر 6 أيام، فضغط على كل الأزرار؛ من إنجاز التوقيع على الترسيم مع إسرائيل، والتواصل مع السوريين والقبارصة بملف الترسيم البحري، وإثارة ملف عودة اللاجئين السوريين، وإعلان افتتاح مقر للقمة الفرنكوفونية بلبنان في آخر يوم من ولايته”.
وأما عدم تجاوب الجانب السوري مع زيارة الوفد اللبناني لبحث ملف ترسيم الحدود البحرية، فيربطه أيوب بجملة اعتبارات:
أولها، أن عهد عون دشن زياراته الخارجية بزيارة أولى إلى السعودية وصفر زيارات إلى سوريا، رغم الدور الذي لعبته دمشق في الدفع باتجاه وصوله إلى رئاسة الجمهورية في 2016 بشراكة كاملة مع حزب الله، فسعى أن يختتم عهده بإرسال موفد رئاسي إلى دمشق.
ثانيها، ثمة رسالة سورية قد تكون بأن وضع سوريا وإسرائيل وقبرص في كفة واحدة يعدّ أمرا غير مقبول سياسيا، لا سيما تخصيص عون سوريا بموفد رئاسي، وكان “يمكن التعامل مع الملف بطريقة مختلفة وبلا ضجيج إعلامي، لولا حماسة الرئيس عون لتسجيل الإنجازات بخانة عهده”.
ويرجح أيوب أن تكون دمشق تفضل ترك ملف ترسيم الحدود بعهدة الرئيس اللبناني الجديد والحكومة الجديدة، “لأن الأمر سيرتبط بالبيان الوزاري وكيفية مقاربة العلاقات اللبنانية السورية في المرحلة المقبلة”.
وبالتوازي، يستبعد المحلل وجود إرادة سياسية لترسيم الحدود البرية، كمعطى سياسي وتاريخي يعود لعهد الاستقلال، وقال “للأمر بعدان؛ أولهما لبناني سوري وثانيهما يتصل بمعادلة الصراع مع إسرائيل. والأمران عالقان ومعهما سيبقى الترسيم البري عالقا”.
أما الترسيم البحري فحساباته مختلفة، حسب أيوب، “فإذا كان السوري أو اللبناني يريدان الاستثمار بشرق المتوسط ضمن المنطقة الاقتصادية لكليهما، فلا بد من الترسيم، وهذا أمر يتصل بتحديد الكوامن ودورة التراخيص والعقود مع الشركات الدولية. وما دامت سوريا مأزومة فليس من السهل الإفراج عن ملف ترسيم الحدود البحرية”.
ويُذكّر أيوب بأن واشنطن تعاقب سوريا بقانون قيصر ولا تريدها أن تستفيد من رسوم وصول الغاز المصري والكهرباء الأردنية إلى لبنان عن طريقها، “وذلك ما يجعل دمشق غير مسهلة لواشنطن بشرق المتوسط وبأهداف ضد الغاز الروسي. وقال “إن سوريا غالبا لن تعطي أولوية لغير الشركات الروسية للاستثمار بمنطقتها الاقتصادية في المستقبل”.
التعليقات